5816

48
1 PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Upload: kotob-arabia

Post on 26-May-2015

328 views

Category:

Education


20 download

TRANSCRIPT

Page 1: 5816

1

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 2: 5816

2

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 3: 5816

3

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 4: 5816

4

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 5: 5816

5

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 6: 5816

6

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 7: 5816

7

م ن ث م الھج وم المقاومة ھي فعل وطني نبی ل ینطل ق م ن مفھ وم واقع ي یح اول اس تعادة الت وازن و ضد مرتكزات العدوان الخارجي أو الداخلي أو بشكل أكثر دقة تدمیر فضاء االح تالل ، الجم اھیر التي تنخرط في فعل المقاومة الوطنیة ھ ي الطلیع ة القائ دة الت ي تع رف أھ دافھا وت درك أی ن تكم ن

ھ ا ویع د ذل ك م صالحھا وتوظ ف ق دراتھا لتط ویر المقاوم ة ف ي ك ل األش كال المطل وب التعبی ر عن الفعل مشروع تمام ًا ، لق د جرب ت الكثی ر م ن دول الع الم وش عوبھا ذل ك الفع ل المق اوم النھ ضوي وم ن ض منھا ش عبنا العرب ي المك افح ف ي فل سطین ال سلیبة و بقی ة أقط ار أمتن ا المب تالة بالھجم ة

ة الكبی رة العدوانی ة ال شرسة الت ي ت ستھدف وجودھ ا ومرتكزاتھ ا الح ضاریة ، وف ي س جل المنازل ندرك تفاصیل الفعل الوطني القومي وتأثیره الذي استھدف الوجود االستعماري في الحقبة ال سابقة وك ذلك الجھ د ال وطني الردی ف ال ذي ك شف ك ل أش كال ال سیطرة المنظ ورة وغی ر المنظ ورة م ن

لمی ة خالل أسالیب التعبیر التي ت شكل ال ساتر األول ف ي المواجھ ة ، ف ي اإلط الع عل ى تج ارب عا تأسست في دول أخرى مثل االتح اد ال سوفیتي ال سابق وفرن سا وألمانی ا وفیتن ام وكمبودی ا وغیرھ ا من مجتمعات حاولت قوى القھر س حقھا ووض عھا تح ت س یطرتھا المھین ة ، ل م یك ن أم ام ش عوب تلك الدول غی ر اللج وء إل ى المقاوم ة وتط ویر أس الیبھا وص وًال إل ى التحری ر والحری ة ، م ن تل ك

ف ي التق دیم والترجم ة أح اول ،الصورة العالمی ة الكبی رة الت ي ت شكلت ونجح ت ف ي إنج از مھماتھ ا الذي رف د تقدیم تلك الصورة الخاصة بالمشھد الثقافي المقاوم - فیركور –لرائعة الكاتب الفرنسي

مھم ة ل شعبھا، تل ك المنج زات الثقافی ة ال ف ي فرن سا وحق ق التحری ر والحری ة ش علة ال رد والتح دي اختی ار ن شر تتداولھا اآلن شعوب األرض قاطبة وتستلھم منھا الكثی ر م ن ال دروس والعب ر ، ی أتي

وشعبینا الصابرین في العراق وفلسطین ، أبناؤھم ا یخوض ون مستب سلین األثر األدبي الممیز ھذال شعاع ھ و ا ض د االح تالل وق وى الطغی ان ، ذل ك الكف اح الباس ل الم ستمر في نضال عنید ومجید

الق ادم وال ذي سی صنع فج ر األم ة ویف تح ال سبل الت ي ست ساھم ف ي تخل یص الع الم م ن الھیمن ة .. العدوانیة الصھیونیةاإلمبریالیة

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 8: 5816

8

... تقديم

كانت فرنسا قد وقعت في قبضة االحتالل النازي البغيض ، في تلك األيام دب اليأس والخوف أبنائها وصار هدير المجنزرات والدبابات والطائرات األلمانية يقـض وغلف الضباب مصير

مضاجع كل المظاهر التي كانت ترافق حالة االحتالل ، كل المؤشرات تعلن عن مستقبل أسود ومشوه تنتظره األجيال القادمة ، مرت أربعة أعوام خاللهما كانـت أرض وسـماء فرنـسا

لماني، حصل كل ذلك بعد شهر حزيران من العـام محتلتين وشعبهما ظل يرسف في األسر األ كل شيء قد تغير بعد االحتالل ، صمت وحزن يطبقان على األبواب والدروب، لم تعد 1940

باريس مدينة النور واللهو والصخب والحب والجمال والفكر الرفيع ، بل تحولت إلى مدينـة تـصادر المـستقبل وتفـرض محتلة تتحرك على مساحات ترابها أشباح االحتالل التي كانت

قسوتها على األرض واإلنسان ، تصاعد األنين الحزين وصار الشجن كشعاع الشمس يخترق العيون ويستقر في األعماق ، لكن فرنسا ظلت تبحث عن طريق وعن بصيص أمل للخـالص من حالة االحتالل واألسر ومن بين ذاك األنين والشجن والقضبان أرتفع صوت منفرد يغـرد

رية والخالص سرعان ما صار يدوي في كل أرجاء فرنسا ، كان ذلـك الـصوت يـدعو للحللنهوض ومجابهة رموز االحتالل وتقوية الفعل النافذ إلى تحريـر األرض واإلنـسان، أنـه صوت األدب المعارض المقاوم أيقظ ذلك الصوت فرنسا كلها ، جعلها تـستفيق وتـستوعب

وتها وتتحول نحو الفعل الذي زرع في قلوب أبنائهـا صدمة االحتالل النازي وتجمع شتات ق الشجاعة، أوقدت تلك األقالم وورش الفنانين مصابيح صارت تتوهج في ليل فرنسا الحالـك وتنشر أردية األمل والحرية وتعلن بوضوح تام عن تقريب يوم الخالص من االحتالل الغاشم

..

السالح األقوى

مية سالح الكلمة المعارضة والمقاومة ، ذلك السالح القوي أنتبه قادة الفكر في فرنسا إلى أه الذي يفعل فعله المدمر في صفوف األعداء ولذلك اتجهوا دون تردد إلـى المـسرح واألدب

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 9: 5816

9

لنشر أفكارهم خالل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهكذا تنادى بعض الكتـاب والمفكـرين لى أثره تأسيس دار للطباعة والنـشر تهـتم تحت جنح الظالم والتقوا في اجتماع سري تم ع

بنشر النتاج األدبي المعارض لقوى االحتالل وتوزيعه في مدن وقصبات فرنسا وكذلك تمويل إنتاج العروض المسرحية ذات التأثير المشابه لتقدم على مسارح فرنسا وتوجيه نـداء إلـى

غير المباشر ضد االحتالل كتاب المسرح الفرنسي آنذاك للمساهمة في إنجاح الجهد التعبوي النازي ، كانت تلك الفكرة جديرة باالحترام وقد حصلت على تأييد كبير مـن لـدن الكتـاب والفنانين وأيضا استطاعت أن تجد دعما غير محدود لدى الطبقة البرجوازية التـي وظفـت

ذا بـدأت الكثير من األموال في مجال اإلنتاج المسرحي دون إثارة حفيظة قوى االحتالل وهك صرخة الحرية والتحرير تجد صدى أكبر لها لقد صارت المساحة تتوسع فـي عمـق بحـار

.وشواطئ فرنسا وعلى كل األرض

منشورات نصف الليل

حول طاولة مستطيلة من خشب قديم أجتمع كتاب وأدباء وفنـانون ومفكـرون فرنـسيون لك االجتماع ريـاح االخـتالف يمثلون مختلف االتجاهات السياسية والدينية وقد أبعدوا عن ذ

السياسي ووضعوا نصب أعينهم مصلحة فرنسا قبل كل شيء ، في ذلـك االجتمـاع جلـس رغـم الخـالف "أراجـون "إلى جانب الشاعر " فرانسوا مورياك "الكاتب الروائي الكاثوليكي

زوال، السائد بينهما، عندما حصل ذلك أدرك قادة المقاومة أن ليل االحتالل بات يقترب من ال وبعد االتفاق على جميع مظاهر العمل المطلوب ، توقف الجميع عند اختيار اسما لدار النشر

دار "، في ذلك االجتماع عرضت أسماء عديدة لكن اآلراء اتفقت علـى اسـم غريـب هـو كانت حيلة ذكية للعمل بعيدا عن عيون رجال رقابة االحتالل، " منتصف الليل للنشر والترجمة

للتذكير بليل فرنسا تحت االحتالل ، قرر المجتمعون أن خطواتهم ستبقى تـسعى وكذلك رمزا للحركة في ذلك الليل حتى يشرق فجر فرنسا الجديد ، وفعال قامت دار منشورات نصف الليل بأعمال مهمة كانت بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر تطلبت من كادرها األدبي والفني العمـل

طة جأش كبيرة والنظر إلى المخاطر الجدية بشيء من االسـتخفاف بشجاعة استثنائية وربا وحرص واقعي يأخذ باالعتبار ظروف االحتالل النازي وقسوة اإلجـراءات العقابيـة التـي وضعها العدو، اعتمدت منشورات نصف الليل خطة سريعة في طبـع الكتـب فـي الخفـاء

تصل من خاللها إلـى بيـوت ونشرها بين الناس في الخفاء أيضا، وصممت للتوزيع شبكة المتلقين بكل الحيطة والحذر رغم مطاردة الجستابو للعاملين في تلك الشبكة أو التحري عـن أسمائهم أو عناوينهم ، كان العقاب الذي ينتظر من يقع في قبضة الجستابو هو اإلعدام دون

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 10: 5816

10

ورات منتصف الليل رحمة وغالبا ما كانت المطاردة للعاملين تنتهي بالقتل ، لقد تحولت منش .إلى نشرة سرية وعمل آخر علني

النتاج المسرحي واألدبي المعارض

المسرح المعارض كان هو العمل العلني اآلخر الذي ابتدعته دار منتصف الليل حيث شـهدت باريس في ليل االحتالل سلسلة من المسرحيات التي عكست األزمة األخالقية لجمهور يرتاب

دو المحتل وتهزه مخاوف وكراهية مكبوتة من سنوات الحرب والتعـذيب بالمتعاونين مع الع واإلعدام، في تلك األيام الحالكة أوشك شعب فرنسا أن يستسلم لليأس لكنه وجد متنفسا فـي المسرح ، خالل فترة قصيرة عندما صار يتابع عروضا مسرحية غير مألوفة وفي تلك الفترة

-جان بول سارتر "موجة األدبية والفكرية المعارضة هما لمع اسم اثنان من الكتاب في تلك ال كالهما صار يمثل صرخة استنهاض سرية تطوف أرجاء فرنسا دون قيود وكـان " ألبير كامو

حضور مسرحياتهما يشكل لدى الجمهور الفرنسي ما يوازي االشتراك في عمل معاد للمحتل فتتاح المـسارح بعـد سـقوط الموجود خلف أبواب قاعة العرض المسرحي ، وحين أعيد ا

تسجل الوثائق أن قوى االحتالل ممثلة بالرقابـة النازيـة منعـت تقـديم 1940فرنسا عام ولكنها وقعت في الفخ عندما وافقت على مسرحية " وليم شكسبير "مسرحية للكاتب اإلنجليزي

ي يعتقـد وكان الرقيب اإلعالمي األلمان " القديسة جوان "هي " جورج برناردشو "أخرى للكاتب خطأ أن المسرحية معادية للبريطانيين، لكنها في نهاية األمـر تـصور البريطـانيين وهـم يحرقون البطلة القومية الفرنسية مما جعل الجمهور الفرنسي يدرك مغزى المسرحية بـشكل

أن الحملة لطرد اإلنجليز فيما مضى تؤكد الرغبة الحالية لطـرد االحـتالل األلمـاني " تلقائي كـان 1942وذلك في العام " الذباب"كتابة مسرحيته المشهورة " جون بول سارتر "أ وحين بد

حريصا على اختيار موضوع ميثولوجي ليخفي موضوع مسرحيته األساسـي عـن الرقيـب األلماني وليقدم في الوقت نفسه للجمهور الفرنسي المحاصر دليال على أن الوضع الفرنـسي

كل حالة ضعف تمر بها فرنسا ، وعندئـذ وفـي عـام ليس جديدا ، بل هو قديم ويتكرر مع التي أيضا حركـت " جان أنوي "لكاتبها " أنتيجونا" بدأت في باريس عروض مسرحية 1943 الجماهير ألن بطلتها الصغيرة ترفض بعناد كل أشكال التخاذل والحلول الوسطية ، مع انتباه

جسيد لحالـة الـرفض الراهنـة، هي ت "أنتيجونا"تلك المسرحية شعر المشاهد أيضا أن حالة عندما أعلنت أنتيجونا انه ما من شيء يمنعها من دفن أخيها كان الجمهور الفرنسي ينتـشي طربا لذلك الحوار وكأنه يسمع صوت المقاومة الفرنسية فوق خشبة المسرح في ذات الوقت

عرفـت الذي تحيط حراب األعداء صالة المسرح، شاع أدب القلق واالضطراب وبفضل ذلك

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 11: 5816

11

المكتبات والمسارح نتاجا مختلفا عما كان يسود قبل الحرب، تعرفت بـاريس علـى أعمـال وأعمال الكاتـب الروسـي " ست شخصيات تبحث عن مؤلف "الكاتب اإليطالي بيراندللو مثل

" لهنريك أبـسن " البطة المتوحشة "وكذلك " زمج الماء -الخال فانيا "مثل " أنطوان شيخوف "للكاتـب " أوبرا القروش الثالث واألم شجاعة وأبناؤهـا "ات أوروبا مثل وغير ذلك من مؤلف

" موسـيقى المـوت الراهبـة "و " كافكا"للكاتب " المحاكمة " وكذلك" بيرتولد برخت "األلماني عن رواية الكاتـب الروسـي " ألبيركامو"التي مسرحها " الشياطين"ومسرحية " فوكنر"للكاتب األدب والمسرح والفنون عموما المساهمة بعكس التأثيرات حاول " .. ديستيوفيسكي"الشهير

المرتبطة بحياة العصر الملموسة ومنها تأثيرات الحربين العـالميتين الالئـى أثارتـا أدبـا وكـذلك "فونـسوا دي كوريـل "التي كتبها " األرض الالإنسانية "دراماتيكيا غزيرا ومن ذلك

لن تقع "و " جير ود " لكاتبها "سيجفر يد "و " البول رين "التي كتبها " القبر تحت قوس النصر "، صورت تلك األعمال اإلبداعية أزمة الحرب وظالم األفق الدبلوماسـي مـن " حرب طروادة

خالل جمل عميقة متشائمة وتأمالت قاتمة حيث األحداث تالمس حافـة قلـب تلـك الحـرب هازية السياسية وبـشاعة اآلالم المدمرة وتعمد إلى تعرية النزاع بين العدالة المتكاملة واالنت

التي سببتها وبمدى االنقالبات التي زعزعت القيم األخالقية ، إن الكوارث الكبيرة والمصائب الكتاب والشعراء والمبدعين حين تبدأ الشعوب المتعبة بـالتنفس، حينـذاك المرعبة تخلق ئك الذين لم يشاهدوها، التي زعزعتها مشاهد مخيفة لترسم أشياء يجهلها أول ةتنطلق المخيل

كرست تلك السنوات مؤلفات عديدة لتصوير ما حصل في تلـك الـساعات الرهيبـة التـي اجتازتها البشرية إلى معبر السالم، كان نتاج تلك الحرب مدهشا في أعمال إبداعية مختلفـة

ليـالي "لموريس كـال فيـل و " الحارقون"وثقت الحرب ونتائج الدمار المادي والمعنوي مثل جـان " ألـف 1946 التي عرضت قصة وثائقية عن االحتالل وفي عام "لساالكرو" "الغضب

الدراما األكثر عنفا وحدة والتي أوحت بها المقاومـة كتبهـا بـدون خجـل أو " بول سار تر حيث أحيت كل التعذيب البغيض، ثم تبعها بوثيقة مدهـشة عـن " الموتى بدون قبر "مدارات

المـسماة "درامات سـارتر " والتي أعيد بناؤها، وهي كانت آخر ألمانيا النازية المدحورة والتي صورت بكفاءة نادرة أدوار العنف الذي غمر الشباب النازي وانتهازية "سجناء التونا "

كبار الصناعيين الذين أعادوا بناء ألمانيا التي لم تكد تنهض من خرائبها ، إن الصراع فـي رب وويالتها التناقض والتعارض الكبيـر بـين الـصوفية أعمال عديدة صور إلى جانب الح

الدينية والميتافيزيقية الملحدة ، إلى جانـب الموضـوع المعاصـر اآلنـي الـذي فرضـته األخالق الشخصية وانضباط الحزب الـسياسي أو المثـل " األيديولوجية السياسية من قبيل

"جون بـول سـارتر "للكاتب " ذرةاأليدي الق" ، كما هي الحال في األعلى الثوري في أمة ما

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 12: 5816

12

، حيث جسدتا بوضـوح تفـسيرات أخـاذة " كامو"للكاتب " سوء تفاهم "والمسرحية الرائعة للنزاعات السياسية واألخالقية التي أثارتها المعارضة، هناك الصراع بـين المثـل األعلـى

ة التـي الشخصي والخضوع لقضية جماعية، لقد تجاوزت األعمال األدبية النمـاذج الـسابق أرادت تصوير الموضوع السيكولوجي واألخالقي وحل بدلها النموذج األدبـي الـذي يـشكل

…المسار الصحيح للحياة االجتماعية والفكرية في األزمنة العصرية

الصامتالبحر

وذلك فـي " تالبحر الصام رواية "من أروع األعمال الروائية التي نشرتها دار نصف الليل ك المطبوعة صدى عميقا في نفوس الفرنـسيين وهـزت مـشاعرهم أحدثت تل 1942عام

وأثارت لديهم همم الحماسة وبين ليلة وضحاها صار كاتبها من أشهر كتاب فرنسا كلها بـل ذاعت شهرته أيضا في دول العالم األخرى كما ترجمت الرواية إلى جميع اللغـات، الروايـة

و اسم لمقاطعة فرنسية انتحل المؤلـف وه" فير كور " ظهرت باسم مؤلف اختار لنفسه اسم الحقيقي اسمها تكريما لها لكونه يقوم فيها بأعمال المقاومة السرية ضد الوجـود النـازي،

انتحلـوا شـتى " منشورات منتـصف الليـل "علما إن جميع الكتاب والشعراء الذين أسسوا لـت شخـصية خفاء شخصياتهم الحقيقية خوفا من بطش األلمـان، ظ األسماء المستعارة إل

يلفها الغموض والسرية التامة في فترة االحتالل وقد راجت حول ذلك األمر " فير كور "الكاتب ولكنها لم تقترب من حقيقة شخصية الكاتب ، وتـيقن الجميـع انـه كاتـب تكهنات عديدة

معروف أو شاعر من كبار شعراء فرنسا يقودهم إلى ذلك االعتقاد إمكانيته المذهلة وجمـال ه ورقة تعبيره وتلك الجمل الموشاة بالحس الشاعري ودقة الوصـف لديـه والـتحكم أسلوب

الكبير في رسم األحداث والتكوين الصوري ، ولكن الحقيقة عندما ظهرت بعد رحيل القـوات هو رسام لوحات وليس كاتبا أو شـاعرا " فير كور" إن الكاتب المدعو المحتلة عرف الجميع

ي أول عهده بالكتابة والتأليف إذ لم يسبق له إن خاض في هـذا ه" صمت البحر"وأن روايته المجال وقد كتب روايته كجزء من أسلوب النضال ضد الوجود األجنبي وهكـذا زاد إعجـاب

انه كتبها في العـام " فير كور"أبناء فرنسا به، وفي مذكراته التي تسبق أحداث الرواية يقول العام التالي ، والرواية من الحجم الـصغير ونشرت ضمن منشورات المقاومة في ) 1941(

يضمها كتيب رسم الكاتب لوحة الغالف له كانت اللوحة تعبـر ) صفحة 60(تزيد عن فهي ال …عن روح فرنسا التي تمردت لتقاوم الدخالء

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 13: 5816

13

عندما تكلم البحر

سي فقد في تلك األيام كانت قد جذبت اهتمام أبناء الشعب الفرن " فير كور " القصة التي كتبها نطقت كما ينطق البحر ويلفظ الزبد على الضفاف وينظف بذلك نفسه بنفـسه ، لـم يقـصد الكاتب فير كور الجنوح إلى أسلوب االستخفاف بالمحتل واالنتقاص منه أو بناء قصة بهدف

ظهارهم بمظهر الغزاة المتوحشين ولكنه عمد إلـى طريقـة مبتكـرة االتهجم على األلمان و النضال حيث ارتقت الكلمات إلى فعل البندقية عندما اختار مضمونا ينسجم تستند إلى فلسفة

" ، تتواجـه شخـصيات روايـة مع روح المعارضة الصامتة التي التزم بها الشعب الفرنسي في حيز مكاني محدود يرمز إلى حالة الحصار التي فرضها المحتـل علـى "تالبحر الصام

سة في نتيجة الرواية أو المحصلة النهائية فالـضابط أبناء فرنسا مع إن حالة الحصار معكو الذي يحاول تحريك الصمت ثم يغـادره وقـد شـعر بحتميـة " فرنر فون ابرناك "األلماني

الهزيمة وبحالة االختناق وصعوبة التفاعل والعبور على المشاعر لتلك العائلة التـي تمثـل يئة إنسان رقيق المشاعر هذبتـه به" فيركور"شريحة من شعب فرنسا ، الضابط الذي رسمه

الموسيقى كل جوارحه بالعطف والرقة ملئتالمدنية وصقلت شخصيته اآلداب والفنون حيث والشعور اإلنساني المتوازن استطاعت الدعاية اإلعالمية األلمانية المضللة أن تخدعه بعض

جعية مغـايرة يؤسس لنفسه مر وصارالوقت ولكنه اآلن يتحرك على مسرح الحقيقة العارية تدفعه لكي يدقق في األمر كثيرا ويتخذ قراره مع نفسه بصمت أيضا، ومنذ البداية يعتذر عن

" أنني لشديد األسف، لو كان في اإلمكان أن أتجنب هذا لفعلـت " صنعه االحتالل الوضع الذي ثم لم تمضي لحظات على تلك الجملة الحوارية المشبعة باألسف حتى يكـشف عـن فلـسفة

أننـي " مغايرة لتوقعات تلك العائلة التي يجتاحها الرعب والموقف الصعب عندما يقول أخرىمنذ تلك اللحظة يكون الضابط األلماني قد " أشعر بتقدير كبير لألشخاص الذين يحبون وطنهم

أتخذ قراره بعدم قذف نفسه في آتون الحرب الدائرة في الميدان الشرقي وهـو فـي قـرارة لى أن يعيش ليرى الدمار قد عم كل مكان ولحق بالبشرية عار كبيـر، نفسه يفضل الموت ع

إن تلك المفاتيح التي أظهرهـا الكاتـب ببراعـة الحرب في كل أشكالها قبيحة ومرفوضة ، وضعت أحداث الرواية في االتجاه الصحيح ومكنتها من الحصول على صراع متصاعد مع إن

شخصية المحورية التي تمتلك سعة األفق فـي الجو العام يلفه الصمت والرفض لكن حركة ال لغرض المقارنة واستحضار حاالت الغزاة وما لحق " فيركور"الحياة وسمو األفكار استخدمها

، أن تلـك وتخريب وقتـل بالشعوب والبلدان من دمار من عار وفعل شنيع وما ألحقوه بهم داخل فيها الصور واألفكـار المقارنة المستترة هي بمثابة شاشة لعرض الطيف السينمائي تت

لتقول رسالة واضحة موجهة إلى عقول الشعب الذي يئن من ليـل االحـتالل والعبوديـة إن

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 14: 5816

14

حاولت تصوير واقع االحـتالل والتي األعالم النازي ةماكينالدعاية الموجهة التي اعتمدتها مـن الـشعوب أن تخدع الكثير " البروغندة "القسري بمثابة فتح للبشرية وهكذا كادت تلك

سعى بدقـة لرفـع تلـك " فيركور" أهدافها ، ومن هنا نجد أن الكاتب وتجند العقول لتحقيق الغشاوة أو ما يسمى بحاجز التضليل ليكـشف عـن حقيقـة المحتـل وأهدافـه العدوانيـة والالإنسانية ، كانت مهمة الكاتب صعبة للغاية وهو يتصدى لتلك القضية فهو في جانب منها

ا إلى حجم الخديعة التي وقع بها الضابط األلماني وكذلك الشعب الفرنسي الـذي يقارن ملمح يراد له إن يظل صامتا دون مقاومة على وهم آمال ينسجها المحتل وهي بمثابة سراب خادع

لقد أحببت فرنسا دائما، كنت طفال أثناء الحـرب العالميـة "، يقول الضابط األلماني فر نر له ، ولكني أحببتها دائما منذ ذاك الحين، لكن ذلـك العتبارفيه آنذاك األولى وما كنت أفكر

ثم يكشف عن جوهر تلك األفكار والباعث الحقيقي لهـا " كان عن بعد ، مثل األميرة النائية بسبب والدي، فقد كان وطنيا كبيرا ، وكانت الهزيمة عنيفة األلم، ومع ذلك فقد أحب " فيقول

وعندما يجد الصمت مثـل " لشمس ستشرق في النهاية على أوروبا فرنسا، كان يعتقد بأن ا أعماق البحر والسكون يلف العيون والقلوب واألجساد يشعر بثقل االنكسار فيعود من جديـد

لست عازفا، ولكنني أؤلـف "ليكسر حاجز الصمت من خالل الكشف عن جانب من شخصيته شيئا مضحكا بالنسبة لي أن أرى نفسي الموسيقى، وهذا العمل هو كل حياتي ، وهكذا يصبح

رجل حرب، ومع ذلك فلست نادما على تلك الحرب ، كال فأنا أعتقد إن ذلك سيتمخض عـن وفي أول اعتراف يصدر عن الكهل العجوز بعد أن يغادر الضابط إلى غرفته " أشياء عظيمة

التحدث إليه ولـو ربما كان من غير اإلنساني أن نرفض" أخيه ألبنةفي الطابق العلوي يقول ثالثة خصوم ومساحة محدودة من الحس اإلنساني أو ما تبقى منه خارج آلـة " بكلمة واحدة

التدمير الحربية المروعة ، الضابط األلماني قد وطن نفسه على تلك الحالة فهو في زياراتـه ذاك ليجنب الفتاة وعمها الكهل النظر إلـى رمـز االحـتالل يبتعد عن ارتداء الزي الرسمي

الزي العسكري واختيار ممر خاص للدخول والخروج ، دائرة الصمت تتسع وهي تشع مـن تلك األجساد المثقلة بدعوات الحرب وأفكار المقاومة ، كان يدق الباب ويدخل دون أن ينتظر إجابة هو على علم بأنهما لن يعطيانهما له ، وكان يفعل ذلك في بـراءة طبيعيـة ، ويـأتي

لقد اختار أدب ما . ر، هذا هو العذر الذي كان يتعلل به ليخفي صبغته التقليدية ليستدفئ بالنا بعد الحرب وفي حالة المقاومة الفرنسية مضمونا وشكال ال يندفعان نحو الرمزيـة وال نحـو الوهم بل ينطلقان من منصة ينابيع اآلالم حيث يصبح فيه الالمرئي مرئيا وتصبح فيه الفكرة

عا وتصبح فيه أيضا اآلالم المبرحة حقيقة حية هائلة، أدبا يعطي العـالم صورة ملموسة وواق …مادة للتفكير والحياة

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 15: 5816

15

الحواجز المضادة

من حقيقة واقعة حول إمكانية العاطفة وفعلها فـي تغييـر " فيركور"أنطلق الكاتب الفرنسي ام حقيقة أخرى وهي تنطلق نحو التفاعل والتالقي ولكنها تتراجع أم أهداف التفكير والشعور

تفرضها الحواجز المنطلقة من األيمان والقيم وأفكار األماني الكبيـرة وخاصـة تلـك التـي وأقصد القيم الوطنية التي مثلت العائق األول أمام تالبحر الصام سيطرت على أجواء رواية

ظهور تطور التفاعل وبوادر الحب فقد حاولت الفتاة في البدء منع شعورها وانفعاالتها من ال نحو الضابط األلماني فهو في نظرها ونظر أبناء فرنسا ينتمي إلى قوم فاتحين ومع شفافيته وسمو تفكيره ونبل أخالقه إال انه يمثل أحد األعداء الغاصبين الـذين نـال مـنهم الـشعب الفرنسي شتى ألوان العقاب والعذاب والحصار والحرمان والرعب المتواصل مـع إن الفتـاة

ين إن أفكارها وجميع مشاعرها تهيم به فقد وجدت في شاعريته ورقة إحساسه تدرك عن يق تبحث عنه وتتوق إليه فاستسلمت لحبها بعد إن كافحته طويال وقررت في النهايـة أنموذجا

وهي لـم تـصرح بـه لـذاك الفتـى أن عليها أن تطوي صفحات ذاك الحب وتدفنه بعيدا يبادلها ذات المشاعر واألحاسيس ، كمن وضـع ذاك مع أنها كانت تدرك جيدا انه العسكري

الحب في دورق زجاجي ورماه في عمق البحر فصار مع تقادم األيام يلفـه صـمت أعمـاق البحار ، وفي النهاية التي يصرح فيها الضابط األلماني بحقيقة مشاعره العميقة والتعـارض

ان الموقف األخير يرسم صـورة ك القائم لديه من سلوكية الفعل القسري المرتبط باالحتالل علي إن أدلي لكما بكالم خطيـر، "إنسانية حيث يهدر صوت الضابط مكتوما وهو يقول لهما

كل ما قلته هذه الشهور الستة وكل ما سمعته جدران هذه الغرفة ينبغي نسيانه، لقـد رأيـت شـاعر، القوم المنتصرين، وتحدثت إليهم، وسخروا مني وقالوا إن السياسة ليـست حلـم

ضحكوا مني طويال ثم قالوا نحن لسنا مجانين إن الفرصة إمامنـا للقـضاء علـى فرنـسا ". وسنقضي عليها، ال على قوتها فقط، ولكن على روحها أيضا ففي روحها يكمـن الخطـر

يعلل الكاتب روح فرنسا وروح كل دولة وشعب بما يملك من عقول مبدعة وكتاب يحركـون هم ينافقون كتابكم، إال انهم في نفس الوقـت " : "فر نر "بط األلماني دفة الحياة ، يقول الضا

ليس هناك كتاباً في جميع البالد التي تحتلها قواتنا ، قد أقاموا دونهم سدا منيعا منذ زمن ، فرنسياً يمكن أن يمر فيما عدا المطبوعات الفنية ومختصرات انعكاس الـضوء أو قـوانين

إنهـم ! لكن ليس مؤلف من مؤلفات الثقافة العامـة ، ال شـيء . .التحول الكيمائي للمعادن " ..يريدون إخماد الشعلة إلى األبد وأوروبا لن يضيئها بعد اليوم ذلك النور

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 16: 5816

16

يقذف في النهاية حمما من الحقائق المعنوية ويقـول ال لكـل " فيركور بحر "هكذا هو صمت ي تقرير مصيرها ويقدر عاليـا ذلـك أدوات القمع البربري ويقف إلى جانب حرية الشعوب ف

وقنـوات التطـور فورة اإلبداع اإلنساني في مجاالت الثقافـة والعلـوم النور الذي تحدثه

. …األخرى

الذكريات المؤلمة والحزينة تصنع الصمت والذهول

على حين غرة انتشرت القوات العسكرية الغازية وراحت تفتش المكان ، بحث دقيـق لـيس مة ولكن عن أهداف أخرى ، أوال جاء اثنان مـن الجنـود ، األول طويـل عن رجال المقاو

ونحيل بينما كان الثاني أقصر منه طوال بقليل كالهما تميل مالمحه إلى اللون األشقر ، لهمـا أيدي برزت عضالتها كما لو كانوا من عمال تقطيع صخور الجبال ، ظـال يراقبـان المنـزل

فعا لدخوله ، وبعد فترة من الترقب لم تستمر طويال جـاء القريب منهما عن كثب دون أن يند ضابط الصف يرافقه الجندي الطويل النحيل ، اقتربا مني ثم سمعت كلماتهما بوضوح وبلكنة

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 17: 5816

17

تكشف عن هويتهما ، تحدثا بلغة موطني ولكنهما غريبان ، لم أتبـين أي معنـي يقـودني ، وعندها فسحت لهما المجال لكـي لمعرفة ما يقوالنه ولكني فهمت من إشارة ضابط الصف

يمرا نحو الغرف العديدة الفارغة في منزلي ، ابتسم ضابط الصف ابتـسامة باهتـة وقلـده الجندي النحيف الطويل ، وعندما جاء المساء لم أتذكر ذلك الذي حدث ، ولكني بدأت استعيد

ية مكـشوفة ، التفاصيل في صباح اليوم التالي عندما اقتحمت حديقة منزلي عربـة عـسكر وقعت عيناي على قائدها، كان ذلك هو الجنـدي النحيـل الطويـل ، شـاهدت االبتـسامات وعالمات الحبور المتبادلة بينه وبين رفيقه ، قام بإخراج صندوقين وكذلك رزمـة ضـخمة ملفوفة بعناية بقماش لونه يميل إلى اللون الرمادي ، تعاونا على نقل األمتعة ووضعاها فـي

رف تلك التي تم اختيارها يوم أمس ، ظل عقلي يبحث عن تفسير للذي حصل ، بعد أوسع الغ عدة ساعات كنت وجها لوجه أمام وقائع جديدة ، سمعت أوال وقع حوافر عدة جياد ثم صـار األمر ينجلي ، ثالثة فرسان من الخيالة وصلوا عند مشارف الـدار ، ترجـل أحـدهم وقـد

ذهب ليستطلعه ، ثم دخل الجميع مع الجياد إلـى صـومعة استهواه المنزل الحجري القديم ف الحبوب أو ما نطلق عليه مخزن الذخيرة والذي حولناه قبل أشهر إلى مشغل ، كنت أراقـبهم بحذر وفضول شديدين ، بحث الثالثة عن مسند يربطون إليه الخيول وعنـدما لـم يجـدوا ،

من الجدار ثم شدوا إليه حبال وربطـوا نقلوا طاولة النجارة الثقيلة إلى القرب من ثقب قريب به خيولهم ، مضى يومان على ذلك الحدث دون أن يحـدث شـيء جديـد يثيـر المتابعـة

، كـان والفضول ، كنت أنهض باكرا لكي أمسك بخيوط ما يجري ولكنـي لـم أرى شـيئا ـ الم الفرسان الثالثة يخرجون على خيولهم منذ بزوغ الفجر ويعودون عندما تبدأ خيـوط الظ

بالسدول ، ينامون على التبن الذي فرشوا به المساحة المتروكة تحت السلم الصخري ، لكن تطورا جديدا حصل في اليوم الثالث ، لقد عادت السيارة الكبيرة وعندما توقفت هـبط منهـا الشاب الطافح بالمرح وهو يحمل حقيبته الكبيرة على كتفه ثم تقدم ليـضعها فـي الغرفـة

عندما لمح ابنة أخي خاطبها بفرنسية سليمة وطلب منهـا شراشـف وأغطيـة المجاورة ، و نظيفة ، هي التي ذهبت وفتحت الباب عندما سمعته يقرع ، في تلك اللحظة كانت تقـدم لـي قهوة المساء ، القهوة التي أحتاج أليها لكي تجلب لي النوم ، من مكاني حيث كنت أجلـس

يط بكل شيء رأيت الباب وتظهر أجزاء من الحديقة في آخر الغرفة وفي ظالم شبه جزئي يح التي هي خارج الدار كما لو كانت بمستوى األرض التي أجلس عليهـا ، رصـيف يـزدحم بالمربعات ذات اللون األحمر الذي ندرك فائدته الكبيرة أيام المطر ، سـمعت خطـوات ثـم

ي التي وضعت فنجانها على أعقاب بنادق على المربعات ، تبادلت النظرات القلقة مع ابنة أخ الطاولة الصغيرة القريبة بينما ظل فنجاني في يدي ، لم تكن ليلة من ليالي البرد القـارس ،

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 18: 5816

18

لكني رأيت خياال ضخما يتحرك لم يكن واضحا في بداية األمر اآلن صار شكله ينجلي ، بدأت لذي كان يستقر أرى بوضوح القبعة ذات الشكل المسطح وبعدها المعطف الواقي من المطر ا

لتستطلع األمر ثم الذت بالصمت ، البـاب فوق الكتفين مثل عباءة ، فتحت ابنة أخي الباب مفتوح اآلن على مصراعيه حتى التصق بالجدار ، استندت إلى الجدار بجسدها وظلت عيناها

قف تحدقان في الفراغ بينما تشاغلت أنا عن تلك النظرات بارتشاف قهوتي ، قال الضابط الوا :عند خط عتبة الباب

..إذا سمحتم لي بالدخول - -

أومأ برأسه محييا ، وظل برهة من الزمن يحسب حجم الصمت هنا ، ثم تحرك ودخـل إلـى .الممر

أنزلق المعطف المطري على ذراعه، ومع نظرة االستكشاف للتفاصيل ، أطلق تحيتـه كمـا واندفاع نزع قبعته من رأسه ثم ألتفـت نحـو يطلق قائد عسكري تحية للجنود وبين ارتباك

ابنة أخي ، رسم على وجهه ابتسامة خفيفة تالشت سريعا وهو ينحني قليال بـصدره ، ولـم يغب عنه أن يلتفت نحوي أيضا وينحني باحترام غلبت عليه صفة الجدية وقال معرفا بنفسه

:

..فرنر فون ابرناك - -

راودتني فكرة أن هذا االسم ليس ألمانيـا ، ربمـا كان هذا هو اسمه، دار االسم في عقلي و ينحدر صاحبة إلى أصول المهاجرين البروتستانت الذين وفدوا إلى ألمانيا ، ومن جديد قطـع

:علي تلك التداعيات عندما قال

..أنا آسف جداً - -

سمعته ينطق تلك العبارة المؤدبة ببطء كما لوكان يهمس في محراب كنائسي ،لـذلك ابتلـع مت الرهيب الذي يفصل بيننا تلك العبارة دون أن تثير الحواس ، أغلقت ابنة أخي الباب الص

المفتوح وظلت تسند ظهرها إلى الجدار تحدق في الفراغ الهائل الذي يغلف المكان ، تقدمت ببطء لكي أضع فنجاني الفارغ فوق سطح البيانو الكبير ، ثم شبكت أصابعي ورحت أنتظـر

الضابط األلماني إلى فترة الصمت القاتلة ، وجدته بعد ثوان يستأنف حديثـه شيئا ما ، انتبه :من جديد ، قال معتذرا

كان هذا الفعل ضرورياً ، أقدمت عليه بسبب الضرورة المطلقة ، ولكني أعـدكم بـأن - -مرافقي الخاص سيبذل كل جهده وكذلك اآلخرين الذين معه لبقاء الطمآنية فـي رحـاب

..هذه الدار

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 19: 5816

19

نت أتابعه بدقة وهو يتحدث وقد وقف وسط الغرفة الكبيرة ، كان يبدو حالما يكشف نحولـه كعن حالة قلق دائمة ، كان طويالً لو رفع يده لمست أطراف أصابعه سطح سـقف الغرفـة ،

كان غيـر مغـروس بـين بينما كان رأسه منحن نحو األمام قليالً ، كنت أرى عنقه كما لو لى الصدر ، ولكنه لم يكن أحدب كما قد يتوقع البعض ، بل كان يبدو الكتفين أراه قد جلس ع

كذلك من مجمع صورته العامة وتفاصيل ساعداه وكذلك كتفاه ، كل شيء فيه يلفـت النظـر ويدفعني لأليمان بتلك الخواطر ، له وجه صاف قسماته جميلة توحي بالرجولة ويميز ذلـك

عيناه اللتان تختبئان في ظل الحاجبين الكثيفـين الوجه أخدودان في تفاصيل الوجنتين ،ولكن ظلتا مرئيتين يزيدهما بريق ذلك اللون الفاتح ،بينما كان شعره األشقر منسدل بترتيب جميـل نحو الخلف ويعكس نور الثريا ، أستمر الصمت بيننا وصار أشد ثقالً من ضـباب الـصباح

مواجهة الساكنة الصعبة زاد مـن الجاثم فوق كل شيء ،جمود ابنة أخي وجمودي في تلك ال ثقل الصمت وقوته في النفس والقلب ، كنت أدرك ذلك واشعر أنه أثقل من اختراق الرصاص لألجسام ومن ثقل تلك الجبال الرواسي ، شعرت أيضا بارتباك ذلك الضابط الذي ينتمي إلـى

عنـدما تقابلـت جيش االحتالل مر ذلك الوقت بينما هو يقف في مكانه دون أن يأتي حركة و النظرات رأيت ابتسامة خجلة وحائرة ولكنها تكشف عن جدية تفكيره العميـق تولـد فـوق شفتيه ، لم تكن نظراته وكذلك ابتسامته تكشفان عن حالة السخرية بنا والتشفي ، حرك يده حركة لم أفهم معناها ، لكني لمحت نظراته تتوقف عند ابنة أخي ، كانت نظرتـه فـي هـذه

قاسية ومباشرة وقد دفعني ذلك لكي أدقق النظر في وجهه أتمعن جيدا مالمحه ، كان اللحظة منظره الجانبي نافراً ويرى منه أنف نحيل ، كما رأيت بين شفتيه المنفرجتين قلـيالً بريـق سن ذهبية ، أدرك حدة نظراتي فأزاح نظراته نحو المدفأة غير البعيدة وراح يحدق في النار

: ثم قال المشتعلة فيها ،

..أوطانهماحترم بصدق الناس الذين يحترمون -

وعندما لم يسمع منا رداً رفع رأسه بصورة مفاجئة وتأمل التمثال المنحوت فـوق النافـذة :والذي يمثل صورة مالك ، وعاد من جديد ليقول

؟..هل يمكنني اآلن الصعود إلى غرفتي - -

ط جيش االحتالل تلك المقاطعة ، وقـال مـن ظل الصمت المطبق بيننا كما هو ، فهم ضاب و :جديد

..ال اعرف الطريق - -

في تلك اللحظة اندفعت ابنة أخي وفتحت الباب الموصل نحـو الـدرج الـصغير وصـعدت الدرجات دون أن تنظر إليه أشعرته كما لو كانت هي وحدها بينما كان هو يتبعها صـامتاً ،

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 20: 5816

20

تازان الردهة الكبيرة ،في تلـك اللحظـة مـألت رأيت إحدى ساقيه متصلبة ،ثم سمعتهما يج الممر أصداء خطوات الضابط األلماني ، كان الصوت يأتي بشكل خفيف ثم يتبعه صوت قوي ،وسمعت باب يفتح ثم يغلق وبعد ذلك ببرهة عادت ابنة أخي ، اندفعت غيوم الحزن والقلـق

نا غليوناً وبقينـا نحـدق بعيدا وبشكل مؤقت ، أخذت فنجان قهوتها ورشفت منه ثم أشعلت أ صامتين واستمر ذلك فترة من الزمن ليست بالطويلة ولكنها قاتلة ، وقـررت قطـع ذلـك

:الصمت فقلت متفحصاً الذي حدث

..شكرا هللا !.. يبدو أن ضابط جيش االحتالل مهذب - -

لم تشاركني الرأي بل وضعت سترتي المصنوعة من المخمل فوق ركبتيها وراحت تواصـل ياطة الرقعة التي بدأتها في تلك السترة ، في صباح اليوم التالي نزل الضابط األلماني أثناء خ

تناولنا إفطار الصباح في المطبخ استخدم درج ثان كان يصل بين الطابق العلوي والمطبخ ، وال أدري أن كان قد سمع أصواتنا هنا واهتدى إلينا أم أنه اختار هذا الطريـق بالـصدفة ،

: عند عتبة المطبخ وقال توقف

؟..كانت ليلة ممتعة ، آمل أن ليلتكما كانت هكذا أيضا - -

ظل جدار الصمت قائماً بيننا وكأننا لم نسمع كلماته ، أدرك ذلك ونظر بابتسامة باهتة نحـو فضاء المطبخ الواسع ، كان التغيير الذي طرأ على المطبخ هو نتيجة منطقية لوضع االحتالل

لك سوى القليل من الحطب والقليل القليل من الفحم ، ولهذا اتخذت قرارا بطـالء ، لم نكن نم المطبخ صار مشعاً ونقلت إليه بعض األثاث وكذلك بعض أواني الطبخ وفي مقدمتها القـدور المصنوعة من النحاس وكذلك األواني الفخارية ، هذه هي خطتنا لمواجهـة فـصل الـشتاء

ني المطبخ جيدا ،كنت أرى لمعان حـواف أسـنانه ، كانـت القاسي ، تفحص الضابط األلما بيضاء ناصعة ، وللمرة األولى أرى لون عينيه لم يكن أزرق كما ظننت بل كان ذهبي اللـون ، وعندما وجد الصمت ال يتغير عبر الغرفة ورأيته يفتح الباب المؤدي إلى الحديقة ، كانـت

ن خارج الدار ثم وقف يتأملهـا كانـت نظراتي مسمرة على هيكله المتحرك ، وضع خطوتي تبدو مغطاة بالدوالي وسطحها مرصوف بالطابوق المحلي ، لم يكن قد ابتعد كثيراً ، وجـدني

: أتابعه عن كثب فقال

مختار هذه المنطقة العجوز أخبرني أنني سأسكن في القصر ، قال جملته وأشار بيـده - - ربوة التل والذي نراه بوضوح عبر تلك األشجار العاريـة إلى القصر الكبير المشيد فوق

اآلن من أوراقها ،وأضاف ضاحكاً بهدوء ، سأوجه الشكر لجنودي على خطـئهم غيـر ..المقصود ، هذا البيت هو أيضا قصر منيف

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 21: 5816

21

لم اعلق بشيء ، بعد لحظة أغلق الباب وألقى بالتحية نحونا ثم مضى عبر الزجـاج ، -قيل الظل رحل مؤقتا كما لو كان كابوساً يرحل فـي لحظـة يقظـة ، الضيف القسري الث

وعندما حل المساء رجع في نفس موعد الليلة الماضية في ذات الوقت الذي كنا نـشرب فيه قهوتنا ، سمعنا قرع الباب لكنه لم ينتظر أن تقوم ابنة أخي لتفتح له البـاب ، فـتح

:الباب بنفسه وقال وهو ينظر نحونا

ستخدم المطبخ للمرور وعندها يمكـنكم انني أزعجكم هكذا ،إذا كنتم تفضلون أخشى أ - - ..إغالق هذا الباب

لم يسمع منا أي تعليق ، أجتاز الغرفة ، ثم وقف لبرهة صغيرة وظلت يـده حـائرة فـوق :مقبض الباب ، حرك نظره في الركن المخصص للتدخين ، ثم قال

.. أتمنى لكما أحالم سعيدة وليلة هانئة - -

،ألقى كلماته وهو ينحني قليالً ، ثم توارى عن األنظار ، لم تكن لـدينا رغبـة فـي أن -نوصد الباب ، ال أدري هل كانت تلك الرغبة لها ما يبررها أصالً هل كانت األفكـار فـي

؟ لم نتفق ضده ولكن كان ثمة اتفاق ضـمني ..المخيلة واضحة وصافية مثل ماء النبع فضي إلى عدم سلوك أي تغيير يستهدف نمط الحياة التي نعيشها ، بيني وبين ابنة أخي ي

حتى ولو كان ذلك يمر إلى األمور التافهة من مفردات الحياة ، كان القرار الخفي وغيـر المتفق عليه يؤكد ضرورة الحياة في هذا البيت كما لو كان هذا الضابط المنتمـي إلـى

؟ فكرت في هـذا األمـر كثيـراًً ..شبح جيش االحتالل غير موجود، هل نعني بذلك أنه وتأكدت أن وراء هذا الشعور فكرة كبيرة تختلج في الصدور وتـستحكم فـي العقـول ، بشاعة ومفردات السلوك القاسي وغير اإلنساني لقوات االحتالل تـضعنا علـى مفتـرق الطرق ، تصطدم حالة الرفض مع الحس اإلنساني المستند إلـى تلـك القـيم والتقاليـد

ألعراف التي تربينا عليها ، وكما تقول كتب التراث والحضارة والدين ليس من السهل واإغضاب أو تحقير المرء حتى ولو كان عدواً ، ظل هذا المشهد يتكـرر يوميـا واسـتمر لفترة طويلة ، تعودنا أن نرى مشهدا واحدا يتكرر كل يوم الضابط األلماني المحتل فيـه

دث ببضع كلمات عن مواضيع غير مهمة ولكنها قـد تكـون يقرع الباب ثم يدخل ، يتح مفاتيح للثرثرة ، يتناول الطقس ، الحرارة ، ارتفاع الثلوج المتـساقطة فـي المنـاطق المجاورة ، أو عن أمور أخرى ال تتطلب منا الرد أو المشاركة بالحوار ، دائما كنت أراه

ك نظراته لتستكـشف مـن جديـد يتمهل عندما تكون أقدامه بالقرب من العتبة كما تتحر تفاصيل الغرفة ، وثمة ابتسامة خفيفة ال تفارق محياه تعبر بوضوح عن حالة االستمتاع في عملية االستكشاف كما لو أنها ضرورية للحياة ولإلقامة هنا ، بعض نظراته تتمهـل

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 22: 5816

22

عندما تصل إلى المكان الذي تجلس فيه ابنة أخي المنحنية على قطعة القمـاش ، هـو درك أن في ذلك الهيكل جدية الالمباالة بوجوده ، وعندما يتحول بنظراته عـن هيكلهـا ي

كنت أرى في عينيه نظرة تحمل عمق التقدير الممزوج بابتسامة ال تتغير ، بعـدها كـان ثـم " أتمنى لكما أحالم سعيدة وليلة هانئـة " يحرك رأسه محييا ويقول جملته المعتادة

ض التغيير في تفاصيل الطبيعة المحيطة بنا ، في الخـارج يمضي ، وذات مساء حدث بع الثلج يتساقط مصحوب بالمطر الغزير والبرودة كانت شديدة جدا ، ذلك التغيير المنـاخي المفاجئ جدا جعلني أضع في الموقد قطعاً كبيرة الحجم من الخشب ، كنت أتخيل الضابط

ن تلك التوقعات انحسرت فهـو لـم األلماني يدخل في أية لحظة وهو مغطى بالثلج ، لك يأت ، والساعة التي يعود فيها كل مرة قد تجاوزت اآلن موعد قدومه ، انتـابني عـدم الرضا عن نفسي عندما وجدته يشغل حيزا في تفكيري ، وكعادتهـا كانـت ابنـة أخـي

تأملها وهي تعمـل سـمعت أمنهمكة في حياكة الثوب الصوفي في تلك اللحظة التي كنت طوات الضابط قادمة من داخل الدار ، تعرفت على الفور على تمييز وقـع تلـك وقع خ

الخطوات غير الموزونة ، عندها فسرت الذي حدث ، لقد دخل إلى الدار من الباب اآلخر وهاهو قادم من غرفته ، ربما لم يكن يريدنا أن نراه في مالبسه العسكرية المبللة ، هـو

هذا أختار ذلك الحل لكي يستبدل ثيابه ثم يظهر ، أقتـرب يدرك أن ذلك يقلل من هيبته ول صوت خطواته فوق الدرج كانت ثقيلة وخفيفة أيضاً ، وبعـد لحظـات ظهـر الـضابط األلماني ، كان يرتدي مالبس مدنية هي عبارة سروال مصنوع مـن قمـاش سـميك

كنـزة وسترة واسعة من القماش المخمل الثخين بدت في وضع مناسب له وتحتها لبس كان جسد مصارع من الصوف الطبيعي التصقت بجسده الناحل فظهر فيها جسده كما لو

:الثيران ، قال

كانت مالبسي مبللة وغرفتي بـاردة ، " توقف لحظة ثم فرك يديه وأضاف " المعذرة ، - - ..أود البقاء هنا بعض الوقت قريبا من الدفء

أمام النار وراح يمد يديـه نحـو اللهـب ، قال جملته األخيرة ثم قرفص بصعوبة بالغة - :المتصاعد منها ويقلبهما وهو يتمتم بسعادة غامرة

..ليتني منذ الصباح كنت أصطلي بهذه النار - -

، قال ذلك ثم دار حول نفسه وهو يعرض ظهره للحرارة المنبعثة من تلك النار ، ظل بعد - :ضاف كمن يكلم نفسه ذلك مقرفصا في مكانه ممسكا بإحدى ركبتيه بيديه ،ثم أ

لطيف شتاء فرنسا في بالدي هو أكثر قسوة ؛ هذا شيء ال يذكر قياسا إلى البرد هناك - -، كم تتحمل أشجار السرو عندنا في تلك الغابات الكثيفة التي يغطيها الثلج األبـيض أن

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 23: 5816

23

أشجار بالدكم ناعمة يبدو عليها الثلج مثل ثوب خفيف ، في بالدي يجب على المـرء أن تكون لديه قوة ثور أسباني لكي يظل قويا وصلبا أمام الطقس الصعب ، عنـدما يكـون

...المناخ مالئماً نجد بوضوح الروح الفكرية تتوقد بالشعر وبالتعبير عن الحياة

نبرة مميزة كما لو كان صوت طبل أجوف ، مع أن لغته الفرنـسية كظل صوته ال يمتل فظ الحروف القوية الساكنة ، كنت أسمع معظم كالمة المحكية لها لحن خفيف يشتد عند ل

مثل الهمس الذي يصاحبه نغم ترهف له حاسة السمع ، ظل حائرا للحظة ثم اسند ذراعه على المستطيل العلوي للمدفأة بعد ذلك اسند جبينه على ظاهر يده ، كانت قامته الطويلة

التي يتجاوز ارتفاعها قمة رأسي ، تجبره على االنحناء ليستند إلى الحافة العليا للمدفأة أخـي فـي الحياكـة ةلبرهة من الزمن ظل ثابتاً في مكانه يلوذ بالصمت ، استمرت ابن

بشكل آلي روتيني ال يخلو من الحيوية ، لم تتجه نظراتها إليه ولـو لمـرة واحـدة ، أطيل واصلت التدخين وأنا في وضع المضطجع في األريكة الواسعة الترف اللينة ، كنت

الصمت الثقيل حتى وجدت أنه ال يستطيع اختراقه ، وأنه سيجبر على تحيتنا ثم يمضي ، لكن الطنين المميز أخذ يتصاعد من جديد دون أن يتمكن من تحطيم الصمت ، بل بـدا

:كما لو أنه قد ولد منه ، قال الضابط األلماني دون أن يتحرك من مكانه أتذكر أنني كنت طفالً خالل فتـرة الحـرب العالميـة لقد أحببت فرنسا دائماً ، اآلن -

األولى ، كل الذي يعلق اآلن بذاكرتي وأفكر فيه آنذاك ، ال قيمة له اآلن ، لكني أدرك تماماً أن ذلك الحب ظل يتواصل عن بعد ، كما لو أني أحب أميرة تسكن فـي عـالم

..بعيد جديد ، وقال بنبـرة يـشوبها توقف عن الحديث لبرهة من الزمن ثم استأنف كالمه من

:التهدج العاطفي ..كان ذلك الحب ينبع من والدي -

استدار نحونا مستنداً بجسده إلى جدار المدفأة ، وقد وضع يداه في جيبي سترته ، كمـا ارتاحت مؤخرة رأسه قليالً على الحاجز القريب ، كان يبادر بشكل روتينـي مـن وقـت

إلى حد بعيد تلك التي تـصدر مـن وعـل جبلـي آلخر بحك مؤخرة رأسه بحركة تشبه مشاكس ، وبالرغم من وجود مقعد خال بالقرب منه لكنه لم يفكـر أبـداً باتخـاذ قـرار الجلوس حتى اليوم األخير ، نحن أيضاً لم نوجه له الدعوة للقيام بذلك طيلة الليالي التي

ه وبيننا ، بعد ذلك التوقـف تواجد فيها بالقرب منّا لم يعمد إلى التقرب أورفع الكلفة بين :القصير أعاد على مسامعنا جملته من جديد ، وقال

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 24: 5816

24

به مـن ننعم كل ذلك الحب بسبب والدي ، كان وطنياً ، في العقل والروح وما يؤم -أفكار ، عندما حصلة الهزيمة القاسية أصابته في مقتل ، وجـد تأثيراتهـا األليمـة

مع ذلك وجدته ظل دائماً يحـب فرنـسا ، مـن عنيفة جعلته يفقد التوازن أحياناً ، و كانـت – فايمار –ويؤمن كثيراً بجمهورية " بريان " عالماته الواضحة ، كان يحب

–بيريـان –لديه حماسة مطلقة في مدار تلك األفكار ، كان يروج بـشدة ألهـداف أنه سيوحدنا مثلما يحصل بين زوج وزوجته ، وظل حتى آخـر أيـام : ويقول عنه

..ه يعتقد ، أن الشمس ستشرق ذات يوم في سماء أوروبا حياتكنت أتابع نظرات الضابط األلماني وهو ينظر بين الحين واآلخر إلى ابنة أخي مواصـالً حديثه دون توقف ، كان ينظر إليها نظرة رجل إلى امرأة ، وجدت في نظراتـه نظـرات

أشك في تحليل نظراتـه تلـك ، ذلك الفنان الذي توقف فجأة أمام تمثال رائع يتأمله ، ال كانت ابنة أخي كالتمثال تماماً ، ربما نتفق أنا وهو على أنها تمثال متحرك فـي صـورة

:دائمة ، أضاف قائالً من جديد في نهاية المطاف كان قد مني بالهزيمة القاسية ، على أثر ذلك رأى – بريان –لكن -

ن البرجوازيون القساة الجهلة ، من أبي أن فرنسا قد وقعت قيادتها في أيدي حفنة م دونديل أو هنري أو بوردو أو مارشالكم العجوز سيئ الصيت ، أتـذكر أنـه –أمثال

يجب أن ال تذهب لزيارة فرنسا قبل أن تكون قـد تمكنـت مـن : " قال لي ذات يوم ارتداء الزي العسكري ، أعني الخوذة والحذاء الطويل والمستلزمات األخرى ، وكان

أن أقطع له وعداً ، في تلك األيام كان والدي يقترب من المـوت ، فـي فتـرة علي .الحرب زرت معظم دول أوروبا ماعدا فرنسا

وجدته يبتسم بشكل ميكانيكي وقال كما لو أنه عمـد إلـى تقـديم التعليـل أو التفـسير :المطلوب لعدم زيارته فرنسا ، قال

...أنني موسيقي -جة القوية قطعة من الخشب المتوهج باللون األحمر النظيـف تهشمت بفعل النار المتوه

وتدحرجت بعض الجمرات خارج الموقد ، وعلى األثر انحنى الضابط األلماني وبادر إلـى :جمع تلك الجمرات الهاربة الموجودة خارج الموقد بالملقط وهو يتابع كالمه قائالً

هو محور حياتي ، وهكذا وجـدت أنا لست عازفاً ، أؤلف قطعاً موسيقية ، هذا العمل -الموقف مضحكاً بالنسبة لي أن أرى تفاصيل حياتي الحالية وأنا أقوم بدور الـضابط المحارب ، ومع ذلك ال أجد مساحة من الندم تستقر في عقلي علـى نـشوب هـذه

..كال ، أنا أعتقد أنها ستؤدي في مجمل تفاصيلها إلى نتائج عظيمة ... الحرب

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 25: 5816

25

في وقفته ، ثم أخرج يديه من جيبيه واحتفظ بهما نصف مرفوعتين وأضاف اعتدل قليالً :بنبرة هادئة

في كلماتي أنني أقـصد جـرح ر أرجو المعذرة ، ربما أسأت التعبير وتأتى لي ما يفس -شعوركما ، ولكنني أثق تماماً بأن كلماتي كانت تعبر عما يدور في ذهني وبشكل مخلص

حب الذي أحتفظ به لفرنسا ، و كما كان يعتقد والـدي أنـا ، أعتقد أنها رسمت صورة ال ..أيضا أقول ، بأن الشمس الجميلة ستشرق ذات يوم في سماء أوروبا

تقدم خطوتين ثم أحنى صدره إلى األمام ومثل الذي كان يحدث في كل مساء مضى ، قال

: ..أتمنى لكما ليلة سعيدة -ين غليوني في صمت ، سعلت قليالً وقلت ثم غادر المكان ، على أثر ذلك أنهيت تدخ -

:

.ربما كان من غير الالئق وغير اإلنساني أال نرد عليه ولو بكلمة واحدة -

رفعت ابنة أخي وجهها ، وارتفع حاجباها عالياً ، وهما يستقران فـوق عينـين يـصدر منهما بريق المع فيه الكثير من االستياء ، وعلى أثر ذلك شعرت بالخجل يتـسرب إلـي

..كما لو كان عاصفة قوية منذ ذلك اليوم وجدنا أن نمط زياراته قد تغير ، لم نعد نشاهده مرتدياً الـزي العـسكري األلماني إال فيما ندر ، كان يصعد إلى غرفته يبدل ثيابه أوالً ثم يقرع الباب علينا ، ربما

راد القوات العسكرية أراد بذلك الفعل أن يجنبنا رؤية ذلك الزي الذي يرتديه في الغالب أف التي تحتل بالدنا ، أو ربما أراد منا أن ننساه لكي نتعود على النظر إليه بهيئة أخرى ،

أراد كال األمرين دون شك ، وجدناه في الحالة الجديدة يقرع بابنا ثم يدخل دون اأو ربم لن نقول له تفضل انتظار ، فهو في الغالب ال ينتظر إجابة منا ، ألنه يعلم علم اليقين أننا

.بالدخول كبير من العفوية ، والقضية ءفي كل مرة يدخل الغرفة كان بذات الحركات ببراءة وبشي

المشتركة في حاالت مجيئه الدائم من أجل أن يقف بالقرب من النار ليحصل على الدفء ليه ، ، تلك كانت حجته الدائمة في سبب القدوم إلينا وهي لم تكن تنطلي علينا أو حتى ع

كما لم يكن يسع لصبغ شخصيته بصفات مصطنعة ، كانت شخصيته نراهـا دائمـاً فـي طابعها التقليدي والمريح جداً ، لم يكن مقرر بشكل روتيني أن يأتي كل مساء ، لكننـا ال نتذكر مرة واحدة هو جاء فيها وتركنا دون أن يكون قد تكلم ، كان ينحني بجسده باتجاه

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 26: 5816

26

من الموقد الحجري ، يفعل ذلك ليعرض جسده للدفء والحرارة وكان لهب النار المنبعث صوته المنساب في طبقته الرنانة يرتفع رويداً رويداً مع توغل الدفء في جسده ، خالل تلك األمسيات المتعددة كان يحاول الكشف عن مشاعره الداخلية ، ثمة حـديث داخلـي

ر متصارعه تشكل في مجملها صورة متصل ينشر خيمته الكبيرة على قلبه مشاعر وأفكا وطنه الذي أبتعد عنه بفعل الغزو العسكري لفرنسا ، المتحدث بشغف عـن الموسـيقى وفرنسا ، ومع ذلك لم يحصل وال مرة واحدة منا على إجابة ، أو على تحديـد موافقـة

ـ ة على اآلراء أو األفكار التي يطرحها ، وال حتى على تبادل نظرات تبدو فيهـا الموافقواضحة ، ومع ذلك لم يكن يطيل الحديث عن زمن ذاك الحديث الذي أفضى به في الليلة األولى ، كما لو أنه وضع مقياساً زمنياً لفترة حديثه كل ليلة ، كنـت أتابعـه ؛ يتحـدث ببضع جمل مركزة ثم يلوذ بالصمت المطبق أحياناً ، تلك الجمل كانـت تتـداخل وكأنهـا

ية متواصلة ، أحيانا نراه يقف بالقرب مـن التمثـال وبجـوار مفردات تراتيل صالة دين المدفأة بال حراك ، وفي أحيان أخرى نشعر بإنه يحاول التقريب من شـيء مـا أو مـن لوحة دون أن يقطع حديثه وفي نهاية المطاف يصمت وينحني ثم يتمنى لنا ليلة سـعيدة

.هانئة وينصرف كأنه طيف عبر بسرعة من أمامنا :حدى زياراته ذات مرة قال في بدء إ

توقـف " أين يوجد الفرق بين تلك النار التي توقد عندنا وهذه التي توقد عنـدكم ، -ربما أجد الفرق يكمن فـي " لحظة ثم أجاب دون أن نتدخل بالحديث ، قال من جديد

نوع الخشب بينما اللهب وتصميم المدفأة متشابهان ، لكن هذا ال ينطبق على صورة ؟ فهذا الضوء يتوقف على األشياء التي يصطدم بها ويغمرها ...يس كذلك الضوء أل

، االختالف أجده ماثالً بنوعية السكان أو قطع األثاث وكذلك الجـدران أو الرفـوف المثبتة عليها ، ربما ال يدور بذهنكم هذا السؤال ، لماذا أنا أعشق هذه الغرفة إلـى

؟..هنا هذا الحد الواضح جداً في مواصلة حضوري توقف عن االسترسال في الحديث ثم قال بعد تفكير عميق ، هذه غرفة متواضعة ليـست

أريد " ثم عاد يقول من جديد –قال ثم ضحك " متفردة في التصميم عذرا من هذا الكالم ، أن أقول عن هذه الحجرة أنها ليست حجرة موجودة في أحد المتاحف وال يمكن أن يقول

ما يسمى األعاجيب ، ولكن المؤكد أن لهذه الغرفة روحاً ، أو ربمـا أحد عن قطع أثاثكم .أردت أن أقول بشكل أدق أن هذه الدار بأكملها تمتلك روحاً ، أنا أرى هذا

كان يقف قريباً جداً من رفوف المكتبة العتيقة ، مرر إصبعه األوسط بلطـف مـستعرضاً :تعراضي أسماء الكتب الموجودة فوق الرفوف ثم قال بصوت اس

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 27: 5816

27

بلزاك ، باريس ، بودلير ، بومارشيه ، بولو ، شاتوبريان ، كورنيـل ، ديكـارت ، -فينيلون ، فلوبير ، ال فونتين ، فرانس ، غوتيه ، هوغو ، ما أعظم أعمدة الفكر هنا ، لم أصل بعد إلى موليير ، أو إلى رابليه أو راسين أو باسكال أو ستندال أو فولتير

. اآلخرين الذين لم أذكر أسمائهم أو مونتين ، وجميعتوقف عن ذكر األسماء ولكنه ظل يمرر إصبعه بين لحظة وأخرى وهو يطلق صوتاً يـنم عن الدهشة واإلعجاب ، ربما كان ذلك يحصل بسبب اكتشافه ألسماء أخرى مهمة جـداً

:لم تكن تخطر بذهنه ، قال وهو يواصل استكشاف الكتب الموجودة على الرف وعنـد – ولـيم شكـسبير –ذكر الشعب اإلنجليزي يقفز إلى الـذهن حـاالً عندما ن -

جوتـه –اإليطاليين نجد دانتي ، وعند األسبان نجد سرفانتيس أما عندنا في ألمانيا وبعدها يواصل تاريخ اإلبداع طرح أسماء أخرى ، لكن في حالة ذكر فرنسا فأن أول

وهوغو وفولتير ورابليـه ، ومـن موليير وراسين –األسماء التي تقفز إلى الذهن غيرهم بعد ، أنهم يتدافعون في طوابير مثل جمهور يقف عند بوابـة المـسرح ، ال

.ندري من هو فيهم صاحب الحق في الدخول أوالً :ألتفت نحوي مغيراً بصره عن الكتب وقال بصوت فيه الكثير من الجد والهدوء

حفظ أسماء ، باخ ، هنـدل ، بيتهـوفن ، أما بالنسبة للموسيقى فهذا مجالنا ، الكل ي -؟ ومع ذلك فقد ولـدت بيننـا ...ولكن أيهم يتربع على القمة .. فاجنر ، موزارت ،

!..الحرب ونتج عنها الخراب قال جملته األخيرة ببطء تام وهو يهز رأسه بأسف واضح ، ثـم رجـع قـرب المـدفأة

متين عندما وقعتا على هيكـل واستقرت عيناه من جديد على هدف قريب ، رأيتهما مبتس :ابنة أخي ، قال من جديد

..هذه هي المرة األخيرة لن نتحارب بعدها ، بل سنرتبط جميعاً برباط وثيق -رأيت أجفانه تنطبق كما أزداد في تلك اللحظة بروز األخـدودين الـضامرين علـى -

جديد بفـرح وجنتيه المتوردتين وبانت من فتحة الفكين األسنان البيضاء ، قال من ..غامر

...أجل ، ال أشك في ذلك أبداً ... أجل -

..وأكد كلماته األخيرة بهزة من رأسه ، ثم تابع قائالً بعد فترة صمت وجيزة

كنت أشعر بالسعادة الكبيـرة ألن الـشعب هنـاك " سانت " عندما دخلنا إلى مدينة -اية ، وعلى أساس ذلـك استقبلنا بترحاب كبير ، نعم في تلك اللحظات كنت سعيداً للغ

أن رأيـت بثاقـب تقلت مع نفسي ، أن األمر سيكون سهالً أمام قواتنا ، ثم ما لبث

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 28: 5816

28

النظر أن الوضع مختلف تماماً ، اآلن بدأت الزوبعة الحقيقية ، آنذاك لم يكن األمـر " .سانت " سوى حالة جبن ، كان الخوف قد سيطر على أهل مدينة

خطرة من التعبير ، وتحولت قـسمات وجهـه لتـصبح تحولت نبرة صوته لتطلق حالة معبرة أكثر عن الجدية والدقة في التصوير ، قال من جديد بعد أن اكتسى وجهه تعبيـراً

:مختلفاً للوهلة األولى احتقرت سكان المدينة تلك ، لقد خفت بـشكل كبيـر علـى فرنـسا ، -

؟...المهين وتسائلت مع نفسي هل وصلت الحالة بالشعب إلى هذا الدرك

:هز رأسه وأضاف بقناعة مختلفة ولكنها كانت أكيدة عندما قال كال ، لقد رأيت فرنسا الحقيقية بعد ذلك الموقف ، أنا سعيد برؤية وجههـا القاسـي -

.الجديد المرفوض من قبلنا التقت نظراته بنظراتي ، لكني حولت نظراتي عنه ، ورحت أجول في أجزاء أخرى مـن

متباطئ متقصدا عدم التأكيد على الكالم الذي تفوه به ، ثم عادت نظراتـي الغرفة بشكل دون إرادة مني لتدقق من جديد في ذلك الوجه المعادي المرسومة عليه حالة كبيرة مـن

:القسوة والجمود ، قال من جديد أنا سعيد بوجودي هنا بين كهل فاضل وآنسة تلوذ بالصمت الدائم ، أنني أفكـر فـي -

ريقة تقودنا لنقهر هذا الصمت ، علينا أن نفكر جدياً بوسيلة نقهر بها صمت إيجاد ط ..فرنسا الكبير ، إذا تم ذلك فأنه يجعل نفسي تشحن بالرضا والهدوء

كان ينظر إلى ابنة أخي ، نظراته تتحرك فوق زاويـة وجههـا الـصافية ذات المالمـح ظراته نحوها في صـمت وبإصـرار العنيدة ، المغلقة على أسرارها ، كان يتابع إرسال ن

رزين تعلوه ابتسامة ترسم بقايا تلك الصورة الحالمة بفرنسا الجديدة ، كانت ابنة أخـي قد أخذت تشعر بتلك النظرات وفحواها لهذا اصطبغت وجنتاها باحمرار خفيف وقد عقدت حاجبيها بينما ظلت أناملها تواصل العمل بحدة وبقسوة بحيـث كنـت أتوقـع أن خـيط

لصوف الذي تعمل به على وشك أن ينقطع ، استمر يتكلم بصوت يتمثل بالبطء ولكنـه ا :حافظ على نغمته الرنانة ، قال

أرى أن األمر أفضل هكذا ، نعم هو أكثر بكثير ، أعتقد إذا حدث ذلـك سـيخلق لنـا -اتحادا متيناً تكون نتائجه إيجابية ستكون عظيمة المردود على الطرفين ، أتذكر ثمة

كاية جميلة كنا نقرأها في سنوات الدراسة األولى ، هي حكاية موضوعة لألطفال ، حأنا قرأتها بشغف وربما أنتم قرأتموها ، وأكاد أجزم كل شعوب العالم قرأتها أو هـي ستقرأها حتماً ، ال أعرف إن كانت القصة تحمل ذات العنوان في ألمانيـا وفرنـسا ،

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 29: 5816

29

تلك المخلوقة المسكينة التـي " الحسناء والوحش "أقول لكم في وطني نعرفها باسم وضعها القدر تحت رحمة ذلك الوحش الغليظ المشاعر ، كانت سجينة عـاجزة عـن تحرير نفسها ، كان الوحش الكريه ثقيل الظل يفرض وجوده عليها في كـل سـاعة من ساعات النهار التي تمر عليها ، لكن الحسناء كانـت تواجـه تلـك المعـضلة

ياء والصمود متمنعة عن السقوط أو االنهيار ، ظلت تصطنع القـسوة وتعلـن بالكبرالقوة والتماسك ، أدركت أن الطين الذي جبل منه الوحش كان أفضل مما يوحي بـه مظهره ، فهو لم يحصل على القدر المطلوب من التعلم والتهذيب ، يبدو دائماً أخرق

ر إلى الكياسة واللياقة بالمقارنة مع سلوك في سلوكه فظاً في أفعاله ، كان دائماً يفتق الحسناء التي كانت تبدو في سلوكها فائقة الرقة ، رقيقة القلب ناعمـة المـشاعر ، هي لم تكن بدون قلب ، كانت روحها تصبو إلى حالة السمو ، وهي لو شاءت تدرك

تكتشف في ، أستغرق األمر وقتاً حتى توصلت إلى ذلك ، وشيئاً فشيئاً أخذت دما تري أعماق عيني السجان المقيت شعاعاً ينبعث ظلت تتابعه لتقرأ فيه طقـوس الـصالة والحب ، أدركت بعد ذلك أن سلطة الوحش في طريقها إلى الزوال وأنها أصبحت أقل ضرراً ، كما تأكدت أن سالسل قيودها الثقيلة أصبحت اقل ثقـالً ، وهكـذا اتخـذت

مس قلبها ذلك الشعاع السحري ، أخذت تمد يـدها قرارها في الكف عن الكره ، فقد إليه ، وسرعان ما تغير كل شيء ، تحول الوحش إلى إنسان ، تالشى ذلك الـسحر الذي صنع المأساة وقيود السجن وحول ذلك المخلوق الهمجي المنبوذ إلـى فـارس جميل ، ذو قلب نقي منفتح على الحب ، ظهرت حقيقته كان مهذباً ومتعلماً وكانـت كل قبلة من الحسناء يرافقها ظهور صفات وخصال أكثر بريقاً ، لقد اتحدا في صورة السعادة التي رسمتها السماء ، أما أوالدهما الذين اعتبروا بحق قد ورثـوا صـفات ومزايا كال الوالدين ، فقد قال الناس عنهم أنهم أروع ما أنجبته الطبيعة والحياة ،أال

؟ أنا أحببتها على الدوام ، وال أنكـر أننـي .... الجميلة تحبون تفاصيل هذه الحكاية قرأتها مرارا، وال أكتم سراً إذ أقول أنني كنت أعيد قرأتها مراراً ، لقد أبكتنـي كمـا أنني أحببت الوحش بشكل خاص ، ألنني توصلت إلى اإلحاطة بمعاناته ، وحتى اآلن

.أجد نفسي تغرق باالنفعال عندما أتحدث عن تلك القصة :سكت قليالً ثم أخذ نفساً عميقاً وانحنى كعادته في كل ليلة وقال بصوت دافئ مسموع

....أتمنى لكما ليلة سعيدة -ذات مساء كنت أسعى للصعود إلى غرفتي ألجلب تبغاً ، سـمعت علـى الفـور صـوت

الثامنة ، كنت على علم تام أن ابنة أخـي تقـوم " باخ " األرغن يعلو وهو يعزف مقدمة

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 30: 5816

30

ين فترة وأخرى بالتدرب على عزفها ، كان ذلك يحصل قبل انهيار الجيش الفرنـسي ، بكما أتذكر أن كراسة التمارين الموسيقية ظلت مفتوحة على تلك الصفحة بعد التوقـف ، في حقيقة األمر لم تكن ابنة أخي قد عادت لمزاولة منهاج التدريب حتى هذا المـساء ،

أثار في نفسي شعوراً كان مزيجاً من السعادة والدهشة ولكن صوت الموسيقى المتواصل والفرح الداخلي ، في تلك اللحظة انفجر في ذهني سؤال ، ما الذي دفعها فجأة الستئناف تلك التمارين التي قاطعتها بعد االحتالل ، لكن الصدمة التي واجهت أفكاري بشدة هي أن

م تبارح مكانها كانت متسمرة فـوق ابنة أخي لم تكن هي التي تعزف ، هي في الواقع ل أريكتها ولم تغلق كتابها ، التقت نظراتها بنظراتي وبعثت مع تلك النظرات برسـالة لـم أتمكن من فك رموزها ، انتقلت نظراتي وهي تتأمل نصف الجسد األعلى الطويل المنحني

الحركـة أمام آلة البيانو ، كانت رقبته مشرئبة وشكل األيـدي الطويلـة الرقيقـة ذات العصبية المرصودة في نهايات األصابع التي كانت تنتقل على مفاتيح البيانو مثل حركـة أشخاص يتحركون باستقاللية تامة ، لقد عزف المقدمة ثم توقف عن العزف واتخذ بعـد

:ذلك قراره عندما نهض واتجه نحو المدفأة ، ثم قال بصوته الذي جاء كالهمس أجد حتى هذه الكلمـة ال ... الموسيقى شيء عظيم ... ا ال يوجد ما هو أعظم من هذ -

تفي هذا الفن قدر حقه ، أنه يطور قدرة اإلنسان ويجعله يخترق اآلفاق البعيدة ، ذلك السحر الذي يجعلنا نفهم بعضنا البعض ، هو الذي يسقط الحواجز والحدود ويفـسر

ن أحياناً اإلحاطـة بهـا ، لنا الطبيعة ، أقصد الطبيعة اإللهية التي يصعب على اإلنسا غذاء الروح ، الموسيقى أحيانا أجدها أسمى بكثير من أفعال البشر ، الموسيقى هي

.الوعاء الكبير الذي تسبح فيه الروح البشرية

بعد أن طرح تلك األفكار بحماسة كبيرة بدا وكأنه قد دخل مجرة الصمت من جديد مفكراً تلك األفكار التي أطلقها في حالة مـن التمـدد فـي ومتأمالً كأنه يحاول أن يسبر أغوار

ضفاف اللحظة الحالمة ، وجدته قد عضّ على شفته ببطء ثـم قـال بـذات الحماسـة :السابقة

باخ ال يمكن أن يكون إال ألمانيا ، أن أرضنا لها هذه السمات ، هذا الطـابع الـذي - .اإلنسان يوصف باال إنساني ، اقصد العامل الذي يتجاوز قدرات وحجم

:بعد ذلك ساد صمت من جديد استمر للحظة من الزمن وسرعان ما عاود الكالم ، قال أنا أحب الموسيقى وأقدرها ، أدرك أنها تمأل كياني ، هي تخترقنـي كمـا يختـرق -

الوجود اإللهي أفراد البشر ، لكنها ليست موسيقاي ، أنني أفكر بوضـع موسـيقاي ا يريدها اإلنسان ، تلك خطتي وهي إحـدى الطـرق الخاصة بي، أريدها أن تكون كم

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 31: 5816

31

الصحيحة لبلوغ الحقيقة ، ولكن هذه طريقتي أنا ، أنني ال أريد إتباع طريق أخرى ، لقد أدركت تلك الحقيقة وأعمل من خاللها ، أنني أعرف هذا الهدف ، أعرفه تماماً ،

..ولكن السؤال المهم منذ متى ، الحقيقة أقول منذ سكنت هنا تدار صار ظهره أمامنا بعد أن استند بيديه على سقف المدفأة التي شد أصابعه عليها اس

، ومن بين فتحة ذراعيه عرض وجهه للهب المدفأة ، في وضعه ذاك بدا كما لـو كـان :يقف خلف قضبان بوابة سياج ، صار صوته أكثر طنيناً وراح يتجه نحو الخفوت ، قال

ي أطلب منها الكثير ، أطلب منها أن ترحب بي ، فمـن اآلن احتاج إلى فرنسا ، ولكن -غير المفيد أن أكون فيها مثل الغريب أو الذي جاء في عاصـفة غـزو أو مـسافر مضطر ، فرنسا ال تقدم شيئاً لمن جاءها في مثل تلك الحاالت ، ألنه من غير الممكن

ب أن ترضـع انتزاع شيء منها ، أن ثراؤها العظيم ليس بوسع أحد أن يغزوه ، يج ذلك منها عن طيب خاطر ، أن تعطينا أثداءها بأمومة ، أعلم جيداً ألن ذلـك األمـر يتوقف علينا ، لكنه يتعلق بها أيضاً ، يجب أن نفهم حدود العطش الذي كـان فـي

..داخلنا لها وأن ترضى بإرواءه ، المطلوب أن تقبل باالتحاد معنا بينما الزالت أصابعه معلقة في الحجـر ، قـال اعتدل بجذعه دون أن يحول ظهره عنا ،

:وقد أرتفع صوته قليالً يجب أن أعيش هنا لفترة طويلة ، في منزل يشبه إلى حد كبير هذا المنـزل ، فـي -

....قرية تشبه هذه القرية ، يجب أن ثم صمت فجأة بعد أن التفت نحونا ، كانت تطوف على فمه ابتسامة باهتة ، أما عينـاه

:ما محدقتين في وجه ابنة أخي ، قال من جديد فلم أجده ...أتمنى لكما ليلة سعيدة ... النوايا الطيبة تستطيع تجاوز الصعاب -

ال أستطيع اليوم العودة بالذاكرة لكي أتذكر بدقة كل ما قيل من أحاديث خالل الفترة التي كنـي أسـتطيع امتدت على مساحة زمنية ألكثر من مائة أمسية من أمسيات الشتاء ، ول

القول أن الموضوع الذي كانت األحاديث تنطلق منه لم يتغير ، تلك األحاديث كانت مثـل قصائد الرعاة التي غناها الشعراء الجوالون وجمعها الباحثون ، تطرق في تلك األحاديث عن اكتشافه لفرنسا ولذلك الحب المتوهج نحوها والذي وجده ينمو في كيانه عـن بعـد

ف إليها ، وكذلك العشق المتزايد والذي يجده يتعاظم كل يوم منـذ أن وجـد قبل أن يتعر سعادة العيش فيها واضحة ، الحق أقول كنت معجباً به كثيراً ، لم يتمكن اليأس منه ولم

عنيفـة ، بـل علـى تتفتر همته ، ولم يسع لتحطيم الصمت باستخدام عبارات أو كلما

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 32: 5816

32

األمسيات كان يترك الصمت ينتشر في كل أرجاء العكس كان يفعل ، ففي الكثير من تلك الغرفة كما لو كان الصمت ذلك الغاز الثقيل على النفس وقد صار يحيط بكل شيء ، كان هو أكثرنا شعوراً بالراحة واالسترخاء ، في مثل تلك الحالة كان يراقب ابنة أخي بنظـرة

ألول ، على أثر تلـك النظـرة تقدير مغلفة بابتسامة جادة رافقته على الدوام منذ اليوم ا كنت أحس بروح ابنة أخي الثائرة في سجنها الذي هي صنعت أسواره ، كنت أدرك ذلـك في العديد من اإلشارات التي ترسلها كما يفعل حجر ممغنط ، اقلها كان ارتجاف خفيـف

يبدد ذلك الـصمت الـذي " فرنر فون ابرناك " في األصابع ، عندما كان الضابط األلماني يحيط بنا بلطف ودون أوامر عسكرية أو ضغط للمشاعر من خالل وشوشة صوته ، كنت أشعر بقدر كبير من الحرية للتنفس وللتأمل وللتدقيق في المشاعر واألفكار ، كان يـتكلم

:كثيراً عن نفسه دون توقف ، قال مسترسالً دة في القريـة ولدت في بيت كبير يقع في الغابة ، وكنت أذهب إلى المدرسة الموجو -

" المقابلة لتلك الغابة ، ذلك المكان لم أغادره أبداً إلى أن ذهبت في رحلة إلى مدينـة لكـي أواصـل تعلـم " سـالزبورغ " لكي أؤدي االمتحانات ، ثم منها إلى " ميونيخ

الموسيقى وعلى أثر ذلك وجدت من المناسب االستقرار فيها لبعض الوقت ، لم يكن في المدن الكبيرة ، بعد ذلك عرفت مدن أخـرى مثـل لنـدن لدي هوى لكي أعيش

لقـد " براغ " وفيينا وروما و وارشو ، وجميع المدن األلمانية ، أحببت كثيراً مدينة وجدتها مختلفة ، ليست هناك مدينة تتمتع بمثل هذا القدر الواضح من الروح ، كمـا

نعش القلب وتجدد الـذاكرة ، أنها المدينة التي ت" نورنبرغ " أحببت مدينة أخرى هي فيها يجد األلماني األشباح العزيزة على قلبه ، يقال أن كل حجر فيها يحمل ذكـرى ، حيث الرجال الذين مضوا بعد أن صنعوا أصالة ألمانيا القديمة ، كما ينتاب المـواطن الفرنسي ، ذات الشعور وهو ينظر إلى كاتدرائية شارتر ، البد أنهم يحسون بوجـود

رواح أجدادهم ، كما يحسون بعظمة الروح واإليمان ، وكذلك يحسون بمدى لطـف أكم كانـت رائعـة " شارتر " التاريخ الذي مضى ، لقد ساقتني المقادير ذات يوم إلى

وهي تشرف على حقول القمح الناضج ، تبدو عن بعٍد شديدة الزرقة ، أرض شفافة يم ، في تلك األثناء تخيلت إحـساس ، لها عبق روحاني آسر ، ياله من إحساس عظ

أولئك الذين كانوا يفدون إليها سيراً على األقدام ، أو علـى صـهوات الجيـاد ، أو بواسطة العربات الخشبية القديمة ، لقد وجدت قلبي ومـشاعري يفيـضان بالحـب

.نحوهما وددت أن أكون أخاً لهم :صار وجهه مغموراً بالظالم ، لكنه واصل كالمه ، فقال

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 33: 5816

33

" شارتر " ال شك أنه من الصعب سماع هذا الوصف وتلك المشاعر من شخص زار -في عربة عسكرية مدرعة ، لكنه صحيح ودقيق جداً ، كم من األمور في هذا العـالم تتناقض ولكن العديد من األشياء تتداخل في نفس الشخص األلماني ، ربما هي عقـد

منحه الشفاء منها ، توقف عـن الكـالم أو أمراض يتمنى لو أن أحداً قد تمكن من لتتحول إلى إضاءة فـي توابتسم من جديد ابتسامة خفيفة جداً ثم سرعان ما توسع

:وجهه كله بالتدريج ، ثم قال في القصر المجاور لبيتنا كانت تعيش فتاة رائعة الجمال ، رقيقة ، كان أبي يتحـدث -

وفاته أصـبحنا شـبه مـرتبطين بسعادة كبيرة وهو يتأمل فكرة زواجي منها ، عند بالخطوبة ، ذلك الوضع سمح لنا أن نقوم سوياً بجوالت ونزهات في أمـاكن بعيـدة

.وقريبة دون رقيب

توقف برهة من الزمن قبل أن يستكمل حديثه ، كنت أنظر إلى ابنة أخي التـي تحـاول عد عدة محاوالت تمرير خيط جديد بدالً من ذلك الذي أنقطع فجأة ، أنجزت تلك المحاولة ب

فاشلة بسبب جوهري هو صغر ثقب اإلبرة ، ولكن االبتسام الح علـى وجههـا عنـدما :تمكنت من تمرير الخيط ، قال الضابط األلماني من جديد

ذات يوم كنا نتواجد في غابة كبيرة منعزلة ، تتالى ظهور السناجب واألرانب أمامنـا -الزهور النادرة مثل أزهـار النـرجس ، كانت أرض الغابة مطرزة بأنواع كثيرة من

" :والسوسن البري ، صرخت خطيبتي من الفرح ، وقالت

أنا سعيدة يا فرنر ، أنا أحب مخلوقات اهللا الطبيعية ، أنها هدايا للبشر ، أنـا أيـضاً -كنت مثلها أشعر بالسعادة ، تمددنا على العشب األخضر الزاهي وكانت نظراتنا تحيط

نكن نتكلم فقط كانت نظراتنا تلتهم الطبيعة ، كنا ننظر أيضاً إلى بنبات السرخس ، لم نهايات أشجار الصنوبر ، تلك القمم الجميلة المتمايلة التي تطير منها وتعود إليهـا

:العصافير الملونة وهي تغرد ، صرخت الفتاة من جديد قائلة

. لقد قرصت ذقني هذه الحشرة القذرة ، تلك البعوضة المليئة بالشر -

لقد تمكنـت مـن : ثم رأيتها تقوم بحركة مفاجئة سريعة فيها الكثير من الغضب ، قالت اصطياد واحدة منها ، أواه ، أنظر إليها جيداً ، سأعاقبها ، سترى كيف أخلع لها أرجلها ، أنظر هكذا ، الواحدة تلو األخرى ، كانت تفعل ذلك دون تردد وهي تتكلم بسعادة كبيرة

لحسن الحظ ، كان يحيط بها معجبون كثيرون ، أنا لـم " ثم استمر قائالً توقف لحظة ..! أشعر بتأنيب الضمير أو الندم ، لكن ذلك الحادث أحدث لدي رعب دائم من سلوك وتفكير

هكذا السياسيون عندنا : الفتيات األلمانيات ، كان ينظر إلى باطن يديه بتمعن وهو يقول

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 34: 5816

34

كر مطلقاً باالختالط بهم ، بالرغم من دعـوات أصـدقائي دائماً ولهذا نفرت منهم ولم أف الكثيرة التي كانت تصلني بشكل منتظم ، كانوا يكتبون إلي يطالبونني بضرورة االشتراك معهم في تحقيق طموحاتهم ، إال أنني كنت أفضل على الدوام البقاء في عالمي الخاص ،

دم لصاحبه راحة البال ، كنت أعلم منزلي والنوتات الموسيقية ، كنت أدرك أن النجاح يق أن أصدقائي وكذلك قائدهم الفوهرر يتوفر لديهم أنبل األفكار وأعظمها ، إال أننـي أعلـم أيضاً أنهم سينزعون أرجل البعوض الواحدة تلو األخرى ، هذا ما يحدث لأللمان عنـدما

ة في وجود أعضاء يجدوا أنفسهم وقد أطبقت عليهم الوحدة ، أنها العزلة التي تراها ماثل ظ لحسن الحظ أنهم لم يعودوا ..الحزب الواحد خصوصاً عندما يكونوا يحتكرون السلطة

وحيدين هناك ، لقد دخلوا فرنسا وأظن أنها ستشفيهم من تلك األورام ، سـأتحدث لكـم عن جوهر األمر الذي أفكر فيه ، أنهم يعرفون أن فرنسا ستعلمهم وستجعل منهم أنقيـاء

متحررون ، اتجه صوب الباب ثم أضاف بصوت مكتوم ، كما لو كان يتحدث ، عظماء ، :مع نفسه ، قال

..ذلك الفعل الكبير يقوم على الحب - ظل ممسكاً بالباب المفتوح لبرهة من الزمن ، ثم التفت وأرسل نظراته من فوق كتفـه

شـعرها نحو عنق ابنة أخي التي كانت منحنية تواصل عملها ، حيث كانت خصالت من ترتفع حول عنقها على شكل دوائر يصبغها اللون البني ، أضاف من جديد بنبـرة فيهـا

:التصميم الموشى بالهدوء والثقة ، قال ...نعم ، أقصد الحب المتبادل -

:ثم أدار رأسه نحو الجهة األخرى ، أنغلق الباب بعد أن قال عبارته اليومية ..أتمنى لكما ليلة سعيدة هانئة -

فصل الربيع الطويل نسبياً ، صار الضابط األلماني ينزل من غرفته مع آخر خيـوط جاء الشمس ، كان دائماً يرتدي ذات السروال المصنوع من قماش رمادي اللـون ، وسـترة خفيفة مصنوعة من الصوف البني الغليظ يرتديها فوق قميص من الكتان ذا ياقة مفتوحة

اب مغلق على سبابته ، كانت تطوف على وجهـه ، نزل ذات مساء وهو يحمل في يده كت :ابتسامة هادئة ، قال

أية أفكار عظيمة .. ثجلبت هذا الكتاب من أجلكما ، هذه صفحة من مسرحية ما كب - ؟..!تلك التي تحتويها

: فتح الكتاب ، وأضاف

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 35: 5816

35

قد بدأت تهرب من يده ، أصبحت في ثهذه هي خاتمة المسرحية هنا أجد قوة ما كب -أولئك الذين أدركوا في وقت متأخر جداً مطامحه السوداء ، هم األمراء النبالء أيدي

المدافعون عن شرف اسكتلندا من الذين كانوا يترقبون انهياره العاجل ، هنا يـصف أحدهم األعراض الدرامية لهذا االنهيار المأساوي ، راح يقرأ مـن الكتـاب بتمهـل

:لمسرحي المفخم ، قال مقصود وفي نبرة يسيطر عليها اإللقاء ا بجرائمه السرية وقد التصقت بيديه ، ففي كل دقيقة من الـزمن ث يشعر اآلن ما كب -

المتداخل يواجه ثورة جديدة من رجال شرفاء ناقمون ، اللوم والتقريع ينصب عليـه كشالل قوي بسبب عهود ومواثيق خانها ودماء زكية سفكها ، أما الـذين يـأمرهم

ـ ويطيعون فأنما تن ثبع أفعالهم من الخوف ال غير ، ليس من الحب أبداً ، أن ما كبصار يرى لقبه المعلن يتضخم كما هو حجم العالم الواسع ، فضفاضاً كثوب عمـالق

.يستقر على جسد مخلوق قزم مشوه مسخ

رفع رأسه وابتسم من جديد ، في تلك اللحظة دار في ذهني سؤال عما هو يفكر فيـه ، ؟ وقبـل أن .. من سرد ذلك لنـا ه؟ ، ما مراد ..لك الصفحة من المسرحية لماذا اختار ت

:أحصل على اإلجابة سمعته يقول من جديد ليل أميرالكم ، أنني أشفق على ذلك الرجل حقاً ، على الـرغم قأليس هذا هو ما يقل -

من حالة االحتقار التي يولدها في نفسي وفي نفوسكم أيضاً ، لقد توصلت إلـى ذات ، الذين يأمرهم ويطيعون أوامره فإنما تنبـع ثيجة الموجودة في مسرحية ما كب النت

طاعتهم له من الخوف وليس من الحب ، أن القائد أو الرئيس الذي ال يحظى بحـب أتباعه هو كالتمثال البائس ، ولكن من يرضى بذلك الدور الحقير غير مخلوق بائس

ن الضروري العثور علـى أحـد يقبـل في األصل ، كان هذا الدور ضرورياً ، أجل م صاغراً ببيع وطنه ، أن فرنسا لن ترضى اليوم ولمدة طويلة باالستسالم لنا طوعـاً دون أن تفقد في ذلك الفعل احترامها لذاتها ، أن أبشع حاالت الخسة تختلط بأجمـل ألوان التحالف ، إال أن الخسة الموصوفة لن تكون بذلك النجاح أقل حقـارة ، ولـن

.بح التحالف من خاللها أقل جماالً يصأغلق الكتاب الذي أحدث صوتاً ثم أدخله في جيب سترته ودق عليه براحتـه ، ثـم -

:أشرق وجهه الطويل بتعبير ينم عن الرضا والسعادة ، قال

من واجبي أشعار مضيفي بغيابي ألسـبوعين ، أن الـسعادة تغمرنـي ألن رحلتـي - في اإلجازة ، وقررت أن أقضيها في بـاريس ، ستكون إلى باريس ، لقد جاء دوري

أنه لحدث عظيم بالنسبة لي ، مع أني أنتظر يوماً آخر هو أيضاً عظيم ، ربما سيدوم

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 36: 5816

36

االنتظار لسنوات أنا قادر على مطاولة الصبر حتى يحصل ذلك ، اعتقـد أننـي فـي ت باريس سأرى مجموعة من األصدقاء من أولئك الذين انتـدبوا للقيـام بمفاوضـا

مباشرة مع سياسييكم ، أنهم يعملون لتحقيق االتحاد بين شـعبينا ، ربمـا سـأكون شاهداً على هذا القران ، أريد أن أقول لكما ، أنني مبتهج كثيراً من أجـل فرنـسا ، عندما يحصل ذلك االتحاد ستلتئم جروحها بسرعة ، إال أنني أشد ابتهاجاً مـن أجـل

ألمانيا مـن ه ما تكسب يأي ربح ال يساو ...! ي وطني ألمانيا ، وكذلك من أجل نفس أتمنـى ... تلك المبادرة الحسنة ، وهي تقرر طوعاً إعادة الحرية واالعتبار لفرنسا

..لكما ليلة سعيدة

..لم نره عندما عاد

لكننا عرفنا بوجوده ، ألن وجود الضيف في البيت يرسل العديد من اإلشارات ويكـشف نت غير مرئية ، ولكننا خالل أيام عديدة تجاوزت األسبوع ، لـم عن نفسه بدالئل ولو كا

.يحدث أن رأيناه في البيت هل علي أن أبوح وأقول أن غيابه قد وضعني في دوامة من القلق كما حرمنـي هـدوء النفس وال أدري إلى أي حد اشعر باألسف على ذلك ، لم نتحدث أنا وابنة أخي عن حالة

نسمع أحياناً خطواته في الطابق العلوي ، كان وقـع الخطـوات غيابه ، لكن عندما كنا غير المتساوية تلك يدفعني للتدقيق في حالة ابنة أخي حيث يـزداد انهماكهـا المفـاجئ بعملها وكذلك التغييرات في مالمح وجهها تلك التي تعبر عن العناد واالهتمـام أيـضاً ،

، وذات يوم كان علي الـذهاب إلـى تتوزع ذهنها هواجس تماثل تلك التي تتوزع ذهني مركز القيادة األلمانية للحصول على تصريح يخص ما أمتلكه من آالت ولوازم زراعية ،

–بينما كنت امأل االستمارة التي قدمها لي الموظف المختص ، خرج الـضابط األلمـاني جالس إلـى من مكتبه ، في البداية لم يراني ، وجدته يكلم الرقيب ال –فرنر فون ابرناك

طاولة صغيرة مقابل مرآة مثبتة في الجدار ، شدني إليه صـوته األجـوف ذي النغمـة المميزة ، وتسمرت في مكاني على الرغم من أنه لم يعد لدي ما أفعله هناك ، لقد سيطر علي انفعال وفضول لالستمرار بالمتابعة ، مع أني في واقع الحال كنت أبحث عن مخرج

ة غير المتوقعة ، رأيت انعكاس وجه الضابط في المرآة كـان نحـيالً ما من تلك المفاجأ وشاحباً وثمة مسحة من حزن دفين انتشرت أسفل عينيه ، ثم ارتفعت عيناه بعد لحظـة وسقطت على عيني في نظرة مفاجئة ، نظرنا إلى بعضنا البعض لبرهة من الـزمن ثـم

تنفرجان ببطء ، رفـع إحـدى استدار على كعبيه حتى صار في مواجهتي ، رأيت شفتاه

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 37: 5816

37

يديه ببطء للحظة من الزمن ثم سرعان ما أنزلها ، هز رأسه دون وعـي كأنـه يـردد حدث ذلك دون أن يرفع نظراته عني ، ثم عمد إلى انحنـاءة " ال " بصوت داخلي مكتوم

بنصفه األعلى تاركاً نظراته الحائرة تنزلق نحو األرض ، ثم عاد إلى مكتبه وهو يعرج ، غلق الباب كمن يحبس نفسه في الداخل ، لم أتحدث البنة أخي عن ذلك اللقـاء ، لقـد أ

تجاهلت كل التفاصيل ، ولكن للنساء كما يبدو قدرة كبيرة في التخمين ، هي لم تتوقـف طوال المساء عن رفع عينيها عن عملها ، كانت تركز نظراتها علـي ، ربمـا حاولـت

، لكنـي د ظاهرة في وجهي لتصل بعد ذلك إلى ما تري بشكل خفي التقاط أية إشارة تبدو اجتهدت تماماً لكي أجعل وجهي يخلو من أية تعبير لقد بدا جامداً صعب االختراق وأيضاً صعب الوصول إلى أفكاري المستقرة في األعماق ، تـشاغلت فـي مواصـلة تـدخين

طوت القماش الـذي غليوني ، أخيراً أرخت يديها كما لو كانت ترسل لي إشارة التعب و كانت تعمل به ، وطلبت مني أن أسمح لها بالذهاب إلى النـوم بوقـت مبكـر ، مـررت أصابعها على جبينها كما لو أنها تحاول طرد الصداع المستقر في تلك المنطقة ، قبلتنـي ، وخيّل ألي أنني رأيت رسالة عتب ممزوج بحزن دفين تلوح فـي عينيهـا الرمـاديتين

عد ذهابها أحسست بغضب دفين راح يتصاعد في أعمـاقي ، كالنـا يبـدو الجميلتين ، ب غريب األطوار ، وهذه بحق حماقة تقود إلى الكثير من التصرفات الغريبة ، حاولـت أن أجد تعليالً أكثر دقة ، لم أتمكن ، سلوكنا أحياناً يبدو فيه الكثير من السذاجة المتأصـلة ،

رغنا من شرب القهوة حتى سمعنا وقع تلك الخطـوات بعد ذلك مرت ثالث أيام ، كنا قد ف المعهودة والمعروفة ، كان صوت األقدام يقترب ، تذكرت على الفور أول مساء أرتـبط بسماعنا لتلك الخطوات أول مرة ، كان ذلك قبل ستة أشهر ، تذكرت أن السماء سـتمطر

ح ، مطـر قـوي هذا اليوم ، وحدث ذلك كان المطر ينهمر بغزارة منـذ بدايـة الـصبا ومتواصل يهطل بشكل عنيد ، لقد أغرق كل شيء في الخارج وجعل البـرودة القاسـية تتسلل إلى داخل المنزل وتترك الرطوبة اللزجة تمتد إلى كل شيء حتى األجسام ، كانت ابنة أخي قد غطت كتفيها بقطعة مربعة من قماش الحرير المثبت عليه نقوش عشرة أياد

تتبادل االتهام تعوزها في الشكل الدقـة " جان كوكتو " هي لوحة للفنان قلقة ، كانت تلك في التأكيد ، كنت أحاول في تلك اللحظة تدفئة أصابعي بنار غليوني ، رغم أننا كنا فـي

..! شهر يوليو اجتازت الخطوات الممر وبدأت درجات السلم تهتز تحت وقع حركتهـا ، كـان الـضابط

اعد لكن دون تردد ، كمن كان يخضع قراره المتحان عسير فيه األلماني ينزل ببطء متص الكثير من التروي ، ولكنه لم يكن متردداً ، كانت ابنة أخي قد رفعت رأسـها ، وأخـذت

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 38: 5816

38

تنظر ألي ، ظلت نظراتها متسمرة على وجهي خالل كل ذلـك الوقـت ، شـعرت كـأن هر عندما ينظر إلى جنوده نظراتها مجردة من الحس اإلنساني تخترق كياني كنظرة الفور

المتقاعسين عن القتال ، عند آخر درجات السلم توقف صوت الحركة وتبع ذلـك شـيء من الصمت والترقب ، عندها تغيرت نظرة ابنة أخي وابتعدت عن وجهي ، رأيت جفنيها المتثاقلين ، ومال رأسها وأسندت بتعب واضح جسدها إلى ظهر األريكة ، لم يستمر ذلك

كثر من عدة ثوان ، لكنها في واقع األمر كانت ثقيلة جداً ، خُيل إلي أننـي أرى الصمت أ الضابط األلماني من خلف الباب وهو يرفع سبابته متهيئاً لقرع البـاب والولـوج فـي تفاصيل المستقبل الذي نبحث عنه ، أخيراً قرع الباب ، لم يكن ذلك مصحوباً بشيء مـن

وف ، سمعت بوضوح ثالث دقات متتالية كانـت بطيئـة التردد أو الحذر الناتج عن الخ وحازمة ، نعم ثالث دقات واثقة وفيها الهدوء الواضح ، هي تعلن عن قرار قـد اتخـذه وال رجعة فيه ، كنت أنتظر وحسب توقعاتي أن أرى الباب كما كـان يحـدث فـي تلـك

، عندئذ اجتـاحني األمسيات السابقة ينفتح في الحال ، ولكن الباب هذه المرة ظل مغلقاً انفعال قوي ال يمكن السيطرة عليه نتج عن تساؤل وعن أفكار متعارضة انفجرت فجـأة في رأسي ، كان يبدو لي أن كل واحدة من تلك الثواني المشحونة بالترقب كانـت تمـربشكل أسرع من سابقتها مما زاد من اضطرابي وهياجي وشدة قلقي ، في زحمـة تلـك

امي بوابة الوضوح واإلجابة ، كنت أقول مع نفسي ؛ هل من المطلوب األسئلة انغلقت أم ؟ ثم لماذا حصل هذا التغيير على األسلوب الذي عهدناه منه ، لماذا ينتظر منّا ...أن نرد

أن نهد جدار الصمت الذي وجدناه يحرص على استمراريته في جميع األمسيات السابقة ذي كان يحيط بنا والذي وصفه بقوله كـصمت ، وكيف كان يقدر ذلك الصمت المطبق ال

البحر المحاصر ، ما هي االلتزامات التي تفرضها حالة الكبرياء والكرامة هذا المـساء ، نعم أركز على التحديد هذا المساء ، نظرت في تلك اللحظة إلى ابنة أخـي أللـتقط مـن

اً من وجهها ال يمكن عينيها المترقبتين بادرة تشجيع أو إشارة ، لكنني لم أر سوى جانب كانت هي أيضاً تنظر بترقب شديد إلى قبـضة البـاب ، .. أن يقدم لي أي دليل أو إيحاء

رأيتها شديدة الشحوب ، شاهدت بياض أسنانها بوضوح وكذلك شفتها العليا التي كانـت ترتفع في تقلص ينم عن األلم ، أما أنا فقد فقدت ما تبقى من قواي أمام المتسرب مـن

المأساة العميقة الضارب جذرها في الصميم التي انزاح عنها الستار فجأة ، والتـي تلك تجاوزت بحدودها حالة القلق البسيط ، في هذه اللحظة وبعد تلك التداعيات الكثيرة قـرع الضابط األلماني الباب مرتين ، نعم سمعت ضربتين خافتتين وسريعتين ، في تلك اللحظة

:قالت ابنة أخي

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 39: 5816

39

...ضي بعد أن قرع الباب سوف يم -صوتها جاء خافتاً ينم عن الخوف والقلق والترقب ، لم أنتظر أكثر من ذلـك ، بـادرت

:فوراً وقلت بصوت واضح ومسموع ...يأدخل يا سيد -

؟ هل كنت أريد أن أرسل إليه رسـالة أننـي " ...سيدي " لماذا حملت دعوتي تلك كلمة الـذي يحتـل بـالدي ، أم – ذلك العدو –أللماني أدعو اإلنسان للدخول وليس الضابط ا

بالعكس لكي أبرهن أنني ال أجهل من الطارق ، وأنني أوجه إليه خطابي بدقة متناهيـة ، لست أدري أي األفكار كانت أوضح في التعبير عن تلك العبـارة ، لـست أدري لمـاذا

الفكرة أمر بـات خرجت من فمي تلك العبارة ، لكني وجدت أن االستمرار في تدقيق تلك غير ضروري بعد أن قلت له تفضل يا سيدي ، وهاهو قد دخل ، توقعـت أن أراه كمـا كان يحصل في الماضي وهو يرتدي الزي المدني ، ولكن توقعاتي أصابها العطـب هـذه المرة ، كان يرتدي الزي العسكري ، أجزم مع نفسي أنه أراد الظهور بالزي العـسكري

من أي زمان مضى ، ارتداه عامداً متعمداً ليفرض علينا رؤية ذلـك وبشكل أكثر إلحاحا الزي الكريه ، أسند باب الغرفة إلى الجدار وظل واقفاً وسط الفتحة معتدالً فـي وقفتـه وقاسياً في مالمحه ، لقد راودني الشك بأني أرى ذات الضابط األلماني الذي رأيته فـي

لـوي " لى حد بعيد الممثل المعروف فـي فرنـسا تاريخ اللقاء األول ، أنه اآلن يشبه إ نبهتني إلى ذلك تفاصيل وجهه الحزين المقطب ، ظل على ذلك الوضـع عـدة " جوفيه

لحظات ، مشدوداً إلى فكرة ما تدور في ذهنه ، كان صامتاً ، عيناه تـدور كـالكرة فـي علـى طـول محجريها ، بينما القدمان متباعدان بشكل خفيف ، بينما ذراعاه مرتخيتان

جسده المتصلب ، ووجهه الذي تحول إلى مساحة جامدة القسمات ، لقد غادرتـه تلـك المشاعر التي تعودنا أن نراها ماثلة لديه ، أنه اآلن يبدو في غاية التبلد والذهول ، كنت جالساً على مقعدي الوثير ووجهي تماماً في مستوى يده اليسرى ، أرى تلك اليد بـشكل

رها الذي شد انتباهي ، هو مشهد مؤثر يرتبط بالحالة العاطفية المعبرة مركز بسبب مظه عن وضع الضابط األلماني ، في تلك اللحظة أدركت أن اليد يمكن أن تقدم صورة مطابقة للحالة النفسية لصاحبها ، هي تماماً مثـل الوجـه المعبـر الـذي يكـشف االنفعـاالت

طرة اإلرادة ، كانت األصابع تتقلص وتسترخي واألحاسيس ، أنها قد تفلت أحياناً من سي ، تتشابك وهي تفصح عما يدور في خلد الضابط األلماني ، ثم وجدت أن الحياة قد أخذت تدب أكثر في العينين اللتين كانتا قد توقفتا منذ لحظة ، في تلك األثناء راودنـي شـعور

راقتان تتموضعان بـين أكيد وغامض بأن عيني صقر جارح تراقبني ، كانتا مثل عينان ب

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 40: 5816

40

أجفان متوترة متصلبة ، ترك فيهما السهاد والكرى العنيد أثاراً قاسية ، استقرت نظراته على ابنة أخي ، ثم تجمدت تلك النظرات تبعها تجمد حركة اليد ، ثـم انفرجـت شـفتاه وأنطلق منها صوت خافت كا الذي يرافق نزع فلينة تسد رقبة زجاجـة فارغـة ، قـال

:األلماني الضابط ...علي أن أتفوه لكما بكالم فيه الكثير من الخطورة -

كانت ابنة أخي تجلس في مواجهته خافضة رأسها ، تلف حـول أصـابعها خـيط كـرة الصوف ، تلك التي أخذت تتدحرج فوق السجادة ، وقد كان هذا العمل البطيء الـرديء

لها بعيدة عن حالة اإلحـراج أيضاً هو الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تفعله والذي يجع التي تحاصرني ، توقف لحظة من الزمن عن الكالم وكان الجهد المبذول من قبله واضحاً

:، أنه يدرك جيداً أن تلك الكلمات التي سيقولها قد تكلفه حياته ، قال من جديد جـدران هكل ما قلته خالل تلك الشهور الستة الماضية ، أو بمعنى أدق كل ما سمعت -

..ه الغرفة هذ

، توقف من جديد ليأخذ نفساً وجدته إلى حد بعيد يشبه حالة تنفس المـصدور بـالربو :حبس أنفاسه للحظة ، وأردف ذلك بزفرة قوية ، ثم قال

...يجب نسيان كل ذلك الكالم الذي تفوهنا به ، نعم يجب نسيانه -

، كانتا مثـل جـذعين تركت ابنة أخي يديها ترتخيان وتسقطان ببطء في حجر تنورتها ليس فيهما حراك سقطا فوق رمال شاطئ مهجور ، ثم رفعت رأسها ببطء وللمرة األولى ، أجل ، كانت المرة األولى التي قدمت فيها للضابط األلماني نظرة من عينيها الشاحبتين

:الغارقتين في سؤال كبير ، قال الضابط األلماني بصوت يشبه الهمس وبلغته األلمانية ...نا يوجد نور باهر ه -

لم تتمكن عينيه من تحمل نور الضوء الباهر ن لذلك سترهما بقبضتيه لعدة ثوان ، ثـم ترك إحدى يديه تهبط عنهما بعد أن أرخى جفنيه ، بعد ذلك أرخى بصره نحـو األرض ،

:ذلك كان صوتاً غريباً مكتوماً ، قال " بب " وتبع ذلك بإصدار شفتاه لصوت ...لرجال المنتصرين رأيت أولئك ا -

:سكت لبرهة من الزمن ، ثم قال بصوت أشد خفوتاً ...لقد تحدثت إليهم -

:ثم توقف لحظة ، وهمس بعد ذلك بمرارة وحزن ، قال ..لقد سخروا مني -

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 41: 5816

41

رفع عينيه إلي ، ثم هز رأسه عدة مرات ، بعد ذلك أسدل الجفنين ثم قال كمن يتحـدث :دون وعي

..ك أننا نعمل لكي نخدعهم ألم تدر: " قالوا - :توقف لحظة ثم أضاف

هل تريدنا أن نتصرف كما يتصرف األغبياء أو الحالمون ونترك فرنسا تنهض مـن -؟ ال ، ال ..كبوتها من جديد لتصبح جبالً شامخاً ينتصب على حدودنا ويـسخر منـا

..يمكن أن يحصل ذلك :توقف لحظة مستذكراً ثم قال

ة شديدة ، كانوا يربتون على ظهري ويحدقون فـي وجهـي لقد ضحكوا مني بسخري - " ..نحن لسنا نفكر كما يفكر عقل الموسيقي : " بسخرية ال حدود لها ، قالوا

عندما قال تلك الكلمات وجدت صوته تشوبه نبرة احتقار ، لـست أدري أن كانـت تلـك :مشاعره الحقيقية أو هي ردة فعل مؤقتة ، قال

، كنت منفعالً للتعبير عن أفكاري ، لكن حديثي لم يرق لهم ، حدثتهم بعد ذلك طويالً -أن السياسة ال تتفق مع أحالم الشعراء أو الفنانين ، نحـن : " قالوا لي بوضوح تام

؟ هل من أجل سـواد عيـون المارشـال ... أشعلنا تلك الحرب ىنسألك لماذا يا تر نحن لـسنا : " ا من جديد ؟ غرقوا في ضحك هستيري ، ثم قالو ...الفرنسي العجوز

مجانين لكي نتراجع ، أن الفرصة أمامنا ماثلة اآلن للقضاء علـى فرنـسا ، حتمـا سنقضي عليها ، لن نكتفي بتدمير قوتها العسكرية ، بل سنعمل على تدمير روحهـا أيضاً ، في روح فرنسا المتحدية يكمن الخطر الكبير ، هذا ما سنفعله ولـن توقفنـا

نفسك باألحالم اإلنسانية ، دائماً الحرب هي الحرب ، سـنعمل مـن قوة ، فال تخدع "..خالل الخطط اللينة الماكرة تلك التي ستجعل من فرنسا مثل الكلب المطيع لنا

سكت مرة أخرى ، تصورت أنه فقد أنفاسه ، كان يبدو الهثاً ، أطبق فكيه بقوة ، رأيـت ضحت ظهور الوريد الغلـيظ الملتـوي بسبب تلك الحركة انسداد أعصاب وجنتيه التي ف

والذي كان ينبض بقوة مثل دودة يتحرك في المساحة الممتـدة بـين األذن والعينـين ، وفجأة تغيرت قسمات وجهه كما لو أن صفعة قوية وقعت على وجهه الذي كـان يـشبه بحيرة ساكنة ألقي فيها حجر مسطح فبدد سكونها إلى حركة مضطربة ، في تلك اللحظـة

عيناه الحائرتين تتعلقان بعيني ابنة أخي اللتان ظهرتا شاحبتين وكانتا في اتـساع رأيتيناسب لحظة الصدمة والذهول الكبير الذي حصل ، قال الـضابط األلمـاني مـن جديـد

:بصوت رتيب بطيء يبدو مختنقاً وكئيب

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 42: 5816

42

...ليس هناك من أمل -ته انه كمن يحاسب نفـسه أو ثم أضاف بصوت أكثر خفوتاً وأبطأ ، وجدت من إيقاع كلما

: يعرضها للتقريع ويسلط عليها سوط العذاب ، قال مكرراً جملته السابقة ...نعم ليس هناك من أمل -

بعد ذلك ساد صمت مطبق ، خيل لي أنني سمعته يطلق ضحكة ، لكنها لم تظهـر علـى ت شفتاه كمـا تقاطيع وجهه التي ارتسم عليها الكثير من الحزن والشعور بالندم ، ارتعش

:لو كان يعاني من مرض عضال ، قال من جديد " لقد وجهوا لي اللوم والتقريع بشيء من الغضب الممزوج بالسخرية ، لقد قالوا لي -

هل ترى جيداً ، كيف سقطت في حب فرنسا ، هل ترى مدى حبك لها ، نحن نعاكسك ها سـوف نطهرهـا ، نعمل على تحقيق الشفاء األكيد ألوروبا من طاعون أكيد أصاب

لقد شرحوا لي خططهم الغريبة على العقل ، لم يتركوا شـيئاً يفـزع العقـل " تماماً ويهشم الروح لم يقولوه لي ، لقد وجدتهم يمدحون المنافقين من كتابكم ، لكنهم فـي ذات الوقت في بالد أخرى تحتلها قواتنا كما في بلجيكا وهولندا قد وضعوا سداً منيعاً

الحر المعارض للحرب ، لم يعد من الممكن تمرير أي كتاب يهدف إلـى ضد التفكير المواجهة أو الكشف عن العيوب ومشاكل االحتالل ، الرقيب اآلن ال يسمح إال للكتب التي تتحدث عن التقنية العلمية ككتب الفيزياء أو طرق تحضير معادالت األسـمنت ،

.ل فهي مرفوضة محجوزة أما مؤلفات الثقافة التي تحتاجها الروح والعقحلقت نظراته من جديد في فضاء الغرفة حتى اصطدمت أخيراً بزوايا الغرفة ، كانت تلك النظرات في تحليقها تشبه تحليق طائر البوم الليلي ، وأخيراً وجدت لها مـستقراً فـوق أحد رفوف الكتب ، تلك المختبئة في هالة الظالم ، بالضبط الرف الذي تـصطف عليـه

لفات راسين وروبنسار وروسو ، ثم ظلت عيناه على ذلك المكان ، عاد صوته يـسمع مؤ :من جديد وهو يحمل اضطراب واضح ، قال

...ال أحد ... ال شيء .... ال شيء -ربما كان يعتقد أننا لم نتوصل بعد إلدراك خطورة ذلك التهديد المبطن الذي سمعناه ، ثم

:أردف من جديد صف على كتابكم المعاصرين ، مثل بيغي أو بروست وبروغسون ، ال يقتصر هذا الو -

...نعم الجميع ... بل قد امتد ليشمل الجميع مرت نظراته الحائرة القلقة على رفوف الكتب مرة أخرى ، كما لو كانت تـسجل عنهـا

:انطباعاً أخيراً ، صرخ

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 43: 5816

43

لذي تبحث عنـه سيطفئون شعلة الفكر إلى األبد ، سيحرمون أوروبا من ذلك النور ا -وتنتظره تلك الصرخة البشرية القلقة غير المتوقعة والتي تمـسك بـالروح والعقـل خصوصاً الكلمات األخيرة ، لكن الصمت قد عاد من جديد ليسيطر على المكان وعلى األجسام المزروعة فيه ، لكن ذلك الصمت كان مثل ذلك الظالم الـذي يحـيط بتلـك

، وكالخوف الذي صار يحيط بالروح والعقل ، قال من الرفوف والكتب المثبتة عليها :جديد

.. أنا متأكد من دقة أفكاري -

أن في أجواء ذلك الصمت يوجد صراع كذلك الذي تمور فيه أعماق مياه البحر ، حيـث يضج بحركة الكائنات البحرية ، حيث تسود اآلن في بحرنا الصامت مـشاعر متناقـضة

وقد أخذت تترك شعور بالقهر والهزيمة المريـرة ، صـوته متعارضة دفينة بدأت تنفجر الذي أرتفع من جديد كسر حاجز الصمت ، جاء رقيقاً ولكنه يكشف عـن حالـة الحـزن

:والمرارة ، قال لدي صديق من الماضي ، كان مثل أخي ، لقد درسنا سوياً ، كنا نسكن أيام الدراسة -

" نورمبرج " ثة أشهر معاً في مدينة ثم قضينا ثال " شتوتجارت " في غرفة واحدة في لم يكن يفعل أحدنا شيئا دون مشاركة اآلخر له ، كنت دائماً أعزف الموسيقى أمامـه بينما كان هو يقوم بقراءة قصائده لي ، كان ذلك الصديق حساساً ورومانسياً ، لكنه

ـ رف في نهاية المطاف تركني وذهب ليقرأ قصائده في ميونيخ أمام أصدقاء جدد تعإليهم ، ذلك الصديق لم يكن ينقطع عن الكتابة إلي لكي ألتحق به ، لقد التقيت به في

..!باريس مع أصدقائه ، رأيت ماذا صنعوا منه حالك رأسه بحركة بطيئة كما لو كان يريد أن يعبر عن حالة الرفض الممزوج بـاأللم ،

:قال ضب والضحك ، كان ينظر إلـي كان هو أكثرهم غضباً وكرهاً ، وجدته يمزج بين الغ -

" أه سم ، ينبغي إنقاذ الوحش وتخليصه من سـمه : " بشكل مسعور ويصيح غاضباً انهـم : " كما كان يربت على معدتي بضربات خفيفة من طرف سبابته وهو يقـول

يرتجفون من الخوف الهائل الذي يحيط بهم ، يخافون على جيـوبهم ومـا اكتنـزت ن الطعام وعلى صناعتهم وكـذلك تجـارتهم ، أنهـم ال وعلى بطونهم وما تشتهي م

يفكرون اآلن إال في إدامة الرفاهية لهم ولمن يحيط بهم ، آه ، أجد أن األمر سيكون كان يضحك فيصبح وجهـه ذو لـون وردي ، " في غاية السهولة واليسر والتمكن

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 44: 5816

44

ق مـن سوف نجعلهم يوافقون على بيع أرواحهم وأجسادهم مقابل طب : " وهو يقول "العدس

أخذ الضابط األلماني نفساً عميقاً بعد أن أواح ذلك الكرب الكبير عن قلبه وروحه وتفـوه :بالكالم الخطير ، ثم أضاف

لقد قلت لصديقي الذي كان ، هل درستم أفعالكم ، هل تدركون النتائج المترتبة علـى -ظ أن ذكاءنـا ..هل تظن أن هذه النوايـا واألفكـار سـتردعنا : " ؟ قال لي ...ذلك

؟ ..إذن ستردمون تلك المقبرة الكبيرة إلى األبد : مخلوق من معدن الشجاعة ، قلت ننظر إلى ذلك كمسألة حياة أو موت ، يكفي أن تتـوفر لـديك : " رد بكل برود وقال

القوة الكبيرة العظيمة لكي تتخذ القرار فتفتح بلداً وتحقق النصر ، وربما تلك القـوة لى فرض السيطرة المطلقة ، قادتنا يدركون كما ندرك نحـن أيـضاً أن ال تساعدك ع

الجيش قد ال يفيد شيئاً في فرض السيطرة على البلد المحتل أو المحـرر بـالقوة ، ذلك الفعل سيكون دون شك على حساب الروح ، ليس مـن الحكمـة : " صمت قائالً

الروح ال تموت أبداً ، لقد تذكر أن : " أن يكون هو الثمن ، رد صاحبي القديم بقوله رأيت حاالت مماثلة لذلك ، الروح تبعث من العدم ، ينبغي علينا أن نـستثمر الـذي حدث ونبني أللف سنة قادمة ، ولهذا فأن الهدم في هذه الحالة مهم جداً ويجـب أن

.يبدأ أوالً صادق فيمـا كنت أنظر إلى أعماق عينيه الصافيتين ، كان الضوء القادم منهما يؤكد أنه

يعرض من أحداث وأفكار ، نعم ، هذا أصعب ما في األمر على اإلطالق ، ثـم انفرجـت عيناه على سعتهما وكأنهما تنظران إلى جثة ممدة على األرض بعد جريمة قتل ، قال من

:جديد أن المخيف في األمر أنهم ال يترددون ، بل سينفذون ما تحدثوا به ، ربما قد وضعوا -

وصمموا له تسلسل زمني ومراحل ، أنني أعرفهم ، هم شياطين ال تعرف لذلك منهج .الرحمة

هز رأسه ، كانت حركته وهو يهز رأسه مثل حركة كلب تؤلمه أذنه ، في تلـك اللحظـة أفلتت همسة من بين أسنانه التي كان يطبقها على بعض ، كانت الكلمة تعبر عـن مـا

.عشقه يقوله العاشق الملتاع المخدوع بنتائج ...أوووووووه -

قالها ولم يتحرك من مكانه ، بل ظل متسمراً حيث كان يقف وقد تصلب جـسده ، كـان يقف كالعمود في فتحة الباب ، كانت يداه مرخيتان كما لو كانت تحمالن كفين مصنوعين

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 45: 5816

45

من الرصاص الثقيل ، كما كان وجهه شاحباً يبدو قريباً من لون جص البناء على جـدار داٍع له لون رمادي تستقر فيه عدة بقع ذات بياض ناصع ، رأيت الضابط األلماني قديم مت

يحني جسده ببطء واضح ثم يرفع يداً باطنها إلى األسفل بينما كانـت أصـابعها منثنيـة بعض الشيء ، أشار بها نحو ابنة أخي ونحوي بشكل أكثر دقة ، شدهما ثـم حركهمـا

وجهه بشكل واضح ، ثم انفرجـت شـفتاه ، مرة أخرى ، رافق ذلك تقلص في قسمات توقعت أنه سيقول لنا كالماً فيه الكثير من العبارات الغريبة ذات القـوة الوحـشية ، أو يدعونا من خالل كلمات تحريض إلى فعل شيء ما ، كان ذلك مجرد اعتقاد ال غير ، لكن

، ثـم نهـض شفتاه لم تنفرج عن أية كلمة ، لقد أغلق فمه وأسدل عينيه مرة أخـرى فارتفعت يداه لتمتد على طول جسمه إلى مستوى الوجه لتقوم بحركات غير مفهومـة ،

، ثم " جاوه " كانت أقرب الشبه إلى حركات بعض الرقصات الدينية المعروفة في جزيرة :تحول ليمسك بصدغية ومقدمة جبينه ومرر أصابعه فوق جفنيه ، وأضاف من جديد

نقوم بما يمليه علينا واجبنا ، وهذا حق من حقوقنـا مادمنـا أننا : " لقد قالوا لي ، - " منتصرين

"ثم قال ساخرا " قال الرب ، السعادة وراحة البال لمن يعثر على طريق واجبه من خـالل !! واجبهم ، -

. من خالل احتالل أرض وشعب !! القوة :اف قائالً كان ساخراً بقوة ، عادت يداه من جديد فسقطتا بجوار جسده ، ثم أض

خـذوا هـذا : " دائماً عند المنعطفات تأتي التعليمات المباشرة بصوت يصرخ بقوة -في أغلب األحيان نجد أن تلك الطريق التـي يـشار " ، ثم هز رأسه وقال " الطريق

إليها ، ال تقودنا نحو القمم العالية ، وإنما نجدها تنحدر في الغالب إلى واٍد مهجـور نه األحزان ، أو تضعنا في ظلمات غابة كئيبـة مليئـة بالترقـب كئيب قذر وتفوح م

.والخوف :رفع نظره نحو السماء ، وقال متضرعاً

ثم قال بصوت فيـه طبيعـة مـن .. " أرجوك أن تدلني على واجبي ...! آه يا ألهي - "يصرخ باتجاه هدف بعيد

.. أنها معركة كبرى مفتوحة بين التفكير المادي والوجود الروحي -

ظل ينظر بثبات يدعو للشفقة والتعاطف معه ، كانت نظراته مثبتة علـى شـكل المـالك الخشبي المنحوت فوق تكوين النافذة ، كان شكل المالك قد صممه الفنـان بهيئـة مـن

.يحيط به الفرح السماوي واالبتسامة الهادئة تبدو واضحة

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 46: 5816

46

يعاني منه قبل لحظـات ، ثم انفرجت أسارير وجهه ، وفقد جسده ذلك التصلب الذي كان ثم انحنى وجهه قليالً نحو األرض ، بيد أنه عاد ورفع نظراته من جديد نحونـا ، وقـال

:بنبرة كانت أكثر هدوءاً لقد تحركت اآلن وطالبت بحقوقي لكي ألتحق بفرقة عسكرية أخرى في الجبهة وقـد -

.حصلت الموافقة ، وسوف يسمحون لي بالمغادرة إلى موقعها يوم غدٍ خُيل إلي أنني أرى شبح ابتسامة على وجهه عندما أضاف من بين شفتيه كلمـة لعنـة

.ساخرة ومؤكدة ...إلى الجحيم -أشارت يده بحركة نحو الشرق ، بالضبط إلى مكان امتداد السهول العظيمة حيث هو -

يرى أن قمح المواسم القادمة سيكون طعامه وسماده من جثث الجنود الـذي قتلـوا ين سيقتلون في ميدان المعارك القادمة ،دار في ذهني ، أنه سيخـضع لألوامـر والذ

القاطعة ، قوة االحتالل تخضع الرغبات المتعارضـة معهـا ، حتـى هـذا الـضابط !الموسيقي

انتابني األلم وأنا أرى وجه ابنة أخي ، كان يبدو شاحباً مثل قمر يعاني مـن األفـول ، بن البيضاء ، كما بدت حبات العرق المتصبب منها تـشكل والشفتان كانتا مثل قطعة الج

فرنـر فـون " خطاً واضحاً بين خط الجبين والشعر ، ال أدري إذا كان الضابط األلماني قد نظر إلى ذلك ، فقد كانت عيناه مشدودتان بالنظر إليها ، هو كمـا القـارب " ابرناك

ار الماء والهواء ولكـن الحبـل المشدود إلى مرساة على الجرف ، يلعب به كما يشاء تي على تمريـر إصـبع بـين } يظل مشدوداً ألقصى مدى ممكن ، أظن أن إنسان ما ال يجر

.نظرات تلك األعين قبضة الباب بإحدى يديه واستند باألخرى إلـى إطـار " ابرناك " أمسك الضابط األلماني

ب الباب نحوه ببطء الباب ، لكن بصره لم يتحرك قيد أنملة عن موضعه السابق ، ثم سح :، ثم قال بصوت يخلو تماماً من أي تعبير واضح

.أتمنى لكما ليلة سعيدة - اعتقدت أنه سيغلق الباب ويمضي ، لكن ذلك التوقع جاء مغايراً ، كان ينظر إلى ابنـة

:أخي ، أرسل نحوها نظرة أخيرة ، وقال هامساً ولكن بصوت مسموع ...الوداع -

تلك الكلمة الحزينة ، بل ظل جامداً في مكانه كمن أصيب بسيف قد لم يتحرك بعد أن قال أخترق جسده ، رأيت وجهه الجامد المتوتر وفيه عينان تجمدت فيهما الصورة األخيرة ،

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 47: 5816

47

كانت تلك الصورة ، صورة ابنة أخي ، ال أدري كم دام ذلك أو كم طـال الوقـت الـذي يراً ، والتمعت على أثر ذلك عينا الضابط تمددت فيه تلك النظرة ، لكنها حركت شفتيها أخ

:األلماني نعم سمعت شفتيها تنطق الكلمة أخيراً ، لقد قالت بصوت مسموع وواضح ...وداعاً -لقد سمعتها كما سمعها الضابط األلماني ، الذي اعتدل فـي وقفتـه وصـار جـسده -

خيرة له وهـو مرتخياً كما لو أنه تعرض لحمام ساخن ، أبتسم ، ترك لنا الصورة األ يبتسم كانت تلك الصورة قد ظلت مخزونة في بؤبؤ العين ، أغلق الباب ثـم سـمعنا

.خطواته تبتعد خارج المنزل

1941تشرين األول باريس

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com

Page 48: 5816

48

لقد ضحكوا مني بسخرية شديدة ، كانوا يربتون على ظھري حن لسنا نفكر ن” : ويحدقون في وجھي بسخرية ال حدود لھا ، قالوا

، عندما قال تلك الكلمات وجدت صوته ” .. كما يفكر عقل الموسیقي تشوبه نبرة احتقار ، لست أدري أن كانت تلك مشاعره الحقیقیة أو

حدثتھم بعد ذلك طويًال ، كنت منفعًال -: ھي ردة فعل مؤقتة ، وقال : تام للتعبیر عن أفكاري ، لكن حديثي لم يرق لھم ، قالوا لي بوضوح

أن السیاسة ال تتفق مع أحالم الشعراء أو الفنانین ، نحن نسألك ” ؟ ھل من أجل سواد عیون ...لماذا ياترى أشعلنا تلك الحرب

؟ ، غرقوا في ضحك ھستیري ، ثم ...المارشال الفرنسي العجوز نحن لسنا مجانین لكي نتراجع ، أن الفرصة أمامنا ” : قالوا من جديد قضاء على فرنسا ، حتمًا سنقضي علیھا ، لن نكتفي ماثلة اآلن لل

بتدمیر قوتھا العسكرية ، بل سنعمل على تدمیر روحھا أيضًا ، في روح فرنسا المتحدية يكمن الخطر الكبیر ، ھذا ما سنفعله ولن توقفنا قوة ، فال تخدع نفسك باألحالم اإلنسانیة ، دائما الحرب ھي

لینة الماكرة تلك التي ستجعل الحرب ، سنعمل من خالل الخطط ال ...من فرنسا مثل الكلب المطیع

- فیركور — الكاتب

PDF created with pdfFactory Pro trial version www.pdffactory.com